المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ثم طارت كالحمامة .


معاوية محمد الحسن
30-03-2012, 12:07 PM
أتاني العم حمودة و كان يبدو مبتئسا بعض الشيء هذا الصباح . دعوته لتناول الشاي رفض ثم أخذ يحدق مليا في ملامح وجهي و قال :

- ها .. هل مازلت تكتب القصص ؟

كمن يخرج من وادي النعاس ليدلف إلي وادي النوم العميق عبرت صحراء صمته الممتدة مثل قدر لا فكاك منه . كان صمته أشبه بصمت الأشجار لكنه كان يابسا مثل أوراق خريفية هوت من قمة الاخضرار إلي أسفل الهشيم و سماء كلامه تبدو ممطرة لو أن برق الشجن خرق قلب سحابها فسيحدث الانفجار لا شك .

أتابع حركات الأصابع المعروقة بعد ذلك و هي تتحسس التوتر علي الجبين و الخدين , يشعل السيجارة كأن حريق العالم يشتعل من أنفاسها , قام يرطن بحكايات أول البارحة حيث أودع عساكر الجيش أبنه الوحيد زنزانة الخدمة العسكرية , ثلاثة أيام و هو يروح و يجيء , يساسق بين القيادة العامة للجيش و مكتب شؤون المستجدين قدم مشفوعات كثيرة حتى يطلقوا سراح الولد و لكن لا جدوى , هاهو الآن يعود لصمت الأشجار لكنني قرأت ما يود أن يقوله :

- ألا تصلح هذه الأحدوثة كمادة قصصية مثلا ؟

في الخاطر دوما قصص كثيرة يحكيها عن هذه المدينة أوان كانت جلدة الشباب خضراء و يانعة , لا ادري لماذا غالب قصصه عن العاهرات الحبشيات في السجانة و أولئك النشالين في سوق ستة . كان يحكي مثلا عن صداقته للخواجة ( يني ) ملك البار الشهير حين نقلوه بفعل اشتراكه في التظاهرات ضد الإنجليز الي مدينة عطبرة لكنه مع ذلك ظل مشاكسا و له في العراك و الشجار صولات و جولات .

سليل فرسان ( الديوم ) الأشقياء و ربيب ( توتو كورة ) و له شهامة أولاد أم درمان . قال ذات مرة :

- شوف كل حكاية احكيها ليك لازم تعرف أنها زي حصلت و ما حصلت .. زي كانوا شوفتها و ما شفتها .. شيء متل الأحلام . زمان حفلة بي عثمان حسين او حسن عطية أوقفها علي فد رجل ..

ثم يضحك و كأنه يستفزني :

- ها .. اكتب قصصك و بس !
بحثنا عن (جمال ) أبنه في معسكر ( فتاشة ) غربي أمدرمان فقالوا إنهم رحلوه الي السليت و في السليت اكتشفنا إن قوة المجندين بالكامل تم توجيهها نحو مسارح العمليات لكن أية مسارح في جبهة الشرق أم الغرب أم الجنوب ؟

اسقط في يده . حاولت أن أخفف غلواء الفجيعة و كنت أعلم أن جمالا أحب الأبناء إليه و هو صغير كان يرسله ليلعب معنا و لكنه كان يدخره لأمر عظيم في المستقبل , كان يري فيه فتحا جديدا في جيل صاعد رقما كبيرا في دنيا ستفتح ذراعيها له
- جمال ما ح يطلع أقل من دبلوماسي كبير أو صحفي مرموق .. حكاية الطب و الهندسة خليناها لأولاد الناس التانيين .

في عينيه ذكاء عجيب . كان بريقا ما يشع في عينيه أعظم من بريق الماس نفسه , صنو أبيه في تدبير المقالب و الطرائف . يلعب الدومينو فلا أحد يباريه و كرة القدم بين قدميه كأنها قيثارة و هو يعزف أجمل الألحان و أعذبها و حين ينزل النهر معنا يجدف في الماء و هو مستلق علي ظهره فعل محترف لا يشق له غبار .

قلت له و نحن قافلان من المعسكر :
- هناك أمل دوما .

كانت حركات وجهه كمذعور أكتشف أن الحائط الذي كان يستظل بظله في أمان الله قد أخذ يتداعي فوق رأسه فجاءه .
قال :
- ح تكتب القصة ؟
قلت دون تردد :
- نعم . لا مفر أبدا من ذلك .

قال خذ عندك أذن و كنت حينها أستعيض عن الخيال بالواقع و بالواقع عن الخيال و ذهبت مذاهب شتي في استدعاء تأريخه الشخصي .

- ( 1) -
أم درمان – قهوة جورج مشرقي سنة 1950

الحيطان في أم درمان ملطخة بروث البهائم و لكن الشمس كانت بها رفيقة و حنونة , تضرب صفحتها ذات اليمين و ذات اليسار كأنها تهدهد طفلا و الناس سعداء الترماي يقوم من أم رمان و يحط في الخرطوم . دار الرياضة تمتلئ و تفرغ و الأمين برهان يصدح في حي العرب .

- هل كان ما يزال حيا حتى ذلك الوقت ؟

المهم أسمع كنت أبيع الحليب علي ظهر أتان عجوز , اشتبكت مع أحد العساكر لأنه رفض أن يدفع ثمن تمنة لبن فمكثت في السجن سنتين , عرفت أهل السياسة و خرجت و عقيرتي مرفوعة في المظاهرات و العراك . تراك لا تصدق ؟

عملت بائعا جوالا ثم جرسونا و حمالا و صبي في قهوة جورج مشرقي و و ..
- هل يستحق هذا الكتابة ؟
- لا . مؤكد لا
- أضف الخيال و الحبكة . أعطيك طرف الخيط فقط

- ( 2) -
خمارة سان جورج سنة 1953

بلغت الحلم و طار لي شارب أنيق و كنت محط أعين فتيات كثيرات . زهو الشباب لا نظير له , دخلت في رهان مع عسكري خواجة حول صندوق بيرة , إذا احتسيته كله فسيدفع هو ثمن الشراب نحو ثلاثة جنيهات و إذا خسرت أنا الرهان فسأدفع المبلغ و أحمل الخواجة علي كتفي الي منزله في اشلاقات البوليس .
- أها ؟
جرعت البيرة مثل ما تجرع الأرض الظمأى ماء المطر , أتيت علي صندوق البيرة و الناس أعينهم مفتوحة من الذهول , كان جوفي يمتص الشراب مثل بالون ضخم . الخواجة اللعين رفض يدفع .

أقول لك شيء وقفت عدييييل و رصعتوا كف .. كف زى الحلاوة و الناس تضحك و تهتف بحياتي

أودعوني سجن المديرية و في الصباح أنطلقت تظاهرة تندد بالمستعمر أما أنا فقد كان البول يشق مثانتي شقا و أنا أصرخ مع الناس في المظاهرة حتى فعلت بنفسي ما فعل الخواجة ( يني ) فصار مثلا يقال :
- أدك سكرات يني !

لا شيء يوحي بالكتابة عن هذا العجوز لماذا ؟ ربما لأن عصر حكاياته لم يعد ملهما . حسنا هذه المرة لن أضل الطريق و سأعثر علي شيء ما يصلح كحدث رئيس في رواية أو قصة قصيرة . ذهبت برفقته شمبات و حين فتح باب الحوش قال :

- خمسين سنة أتنقل من هنا الي هنا . سكنت أحياء البلاد كلها

الغرف من الجالوص تبدو بائسة من الخارج لكنها من الداخل أنيقة و زهور الياسمين و صباح الخير نمت و ترعرعت علي جنبات الحوش و هناك أزيار تحت شجرة اللبخ الكبيرة و عنقريب هبابي و كلب باسط ذراعيه بالوصيد . صورة جمال ابنه علي جدران غرفة الضيوف . يا لله الأشياء باردة و ساكنة . تحاشيت النظر الي صورة جمال زميل الدراسة , سمته في الصورة كسابق الأوان , كان يكتب لنا الخطابات الغرامية و يجادل في السياسة وله في محبة أهل الحي حظ عظيم .

كأنه قرأ ما يدور في رأسي فقال و هو يشير الي صورة ابنه :

- أخذته خدمة الجيش الحكومة شاركتنا حتى في أبنائنا .

ربما الآن هو في همشكوريب أو نمولي أو جبال النوبة . هل مات ؟ العجوز يقطع بذلك أحيانا , ذات مرة جاءته برقية مقتضبة تطمئنه علي حال ابنه لكنه لم يصدقها . صار وحيدا الآن يحاول نسج حكاية عظيمة عن ماضيه التليد لكن لن تفيده حكايات الماضي كثيرا مثلما أنها لن تقف كذلك ترياقا ضد الوحدة و العزلة و بؤس الحياة .

******
( أنا حمودة ود سعيد كنت اعمل في مهنة أسمها الحياة في أم درمان .
هل تعرفون معني أن يمتهن المرء الحياة عملا ؟ فكرة مجنونة و لا أدري لماذا يلاحقني هذا الولد بزعم الكتابة , حياتي لا شيء فيها يستحق أن يروي , عشت مثل سائر البشر, أكل و أشرب , أنام و أستيقظ , أحب و أكره . طربت للغناء و الموسيقي و أحببت الحيوانات الأليفة , شربت الخمر و ذهبت كثيرا للصلاة في المساجد . قاومت و صارعت أفات الزمان مثل السرطان و الحمى و كانت الحياة مهنتي . كنت مثل مسافر و أحس الآن أن القطار يدنو من محطته الأخيرة كثيرا لكنني لم أقل كل شيء بعد .)

هكذا أخذت أخط أولي كلمات القصة قبل أن تغالبني أوجاع الكتابة فأهرع نحو ذاكرة المكان . كان من الممكن أن يقول كلاما كلاما كثيرا ولا شك عن حدث مهم , حدث أكبر من مغامراته في أم درمان و فاجعة اقتياد أبنه قسريا الي الحرب لكنه تخندق بصمت الأشجار .

هل يخفي شيئا ما خلف ظلال التاريخ الشخصي ؟
منذ يومان أو أكثر و هو مختف . سالت عنه في كل مكان و لكن لا أحد يعلم أين أختفي العجوز . هل كان فكرة و تبخرت ؟ شبح مثلا ؟ لم لا يكمل ما بدأه ؟
تذكرته حين قال :

- أنت تكتب القصة و أنا أعطيك رأس الخيط فقط فاهم ؟

كنت أقرأ له ما أكتب حال الفراغ من صياغة القصة لكن كثيرا ما لا تعجبه تلك القصص و يذكرني بضرورة البحث عن فكرة غائبة و حاضرة في ذات الوقت . هناك دوما ثمة حكاية لم يكتبها أحد من الناس بعد لكنها قائمة تحلق مثل الطيف في محيط الدائرة

طال اختفاء العم حمودة .
في ليلة شاتية و كانت الريح تهز مفاصل العالم سمعت قرعات الأقدام علي الأرض في الخارج فقمت كمن أستولي عليه ذعر الدنيا بحاله . كانوا في الخارج يحملون الجثمان و في أيديهم المصابيح و حس العويل و البكاء لا ينقطع نظرت الي نافذته تلوح في الظلام و قد أطبق السكون و ساد البيت حزن كثيف شعرت روحي و قد أفاضت الي حيث أفاض الرجل ثم تسربت فكرتي الجديدة الي دواخلي و طارت الي هناك مثل حمامة لأنني كنت حينها قد عثرت علي قصتي التي سأكتبها يوما ما .

انتهت ,,

النور يوسف محمد
30-03-2012, 11:38 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

جميل يا معاوية ..

أعجبنى هذا الإمساك المتقن بخيوط النص ..


شكراً كتير ..

معاوية محمد الحسن
01-04-2012, 07:33 PM
شكرا جزيلا استاذ النور

مع أصدق تحياتي يا صديقي ,,