عبدالله الشقليني
27-07-2006, 11:09 PM
الأحباء هُنا
كتبنا في سودانايل قص ، لفافة من ذكريات العُمر :
العُشرة الطيِّبة
تلقيت رسالة عبر الهاتف النقال من ( أم سماح ) تقول:
ـ [ أحرزت ( سماح ) نسبة عامة تبلغ تسعين في المائة في اختبارات الشهادة الثانوية السودانية. ]
فرحت لهما من قلبي، وحدثتها عبر الهاتف من دولة أخرى مُبارِكاً.
قلت لها:
ـ [ غريب هذا الزمان.. لو فارقتِ أباها قبل تكوّن بذرة حياتها الأولى، لما كانت ( سَماح ) قد تَخلَّقت ثم نشأت، ولما سعد بها قلبكِ الآن !. ]
قالت وكأني أراها مُتبسِمة:
ـ [ إنك لم تنسَ أبداً.. كانت مشُورتكَ و صبرنا. رزقنا المولى بها أولاً، ثم بنجاحها، وها نحن الآن مغمُورين بفيض و نعجز أن نوفِ المولى حقه من التبجيل.]
ضحكت أنا.. وتذكرت تفاصيل يوم من تاريخ قديم كانت هي عازمة أن تُفارق ( إبراهيم ) زوجها . كان الوقت حينها من بعد منتصف نهار يوم عملٍ شاق، قُلنا لنسترح. رويداً ثم فتحنا أغلفة القلوب المُتعَبة. قالت :
ـ [ إن زواجي من ( إبراهيم ) عُشرة طيبة بلا محبة عِشق. زوج كريم وشهم . كزواج الجدَّات في المجتمع القديم، جَربنا العُشرة بلونٍ جديد وسارت بنا الدُنيا بلا ضجيج. إن رضينا اليوم بالعُشرة دون محبة عشقٍ، فلن تُرضينا الحياة بلا إنجاب، فذلك قتل بطيء لا أرضاه لنفسي.]
قلت لها:
ـ[ أعرضتُما أنفُسكما على الطب ؟ ]
ردت:
ـ [ نعم... فزوجي الآن تحت العلاج ويحتاج الكثير من الصبر. رُب ثمرة نُنجبها ، وربما بلا ثمار !. عُمر الإنجاب عندنا محدود كما تعلم، فما العمل ؟ . أقبلُ أنا نصيحتك، فأنت رفيق دربٍ وصديق من العُمر النبيل. يقولون الصديق بوصلة الحِكمة.]
كانت الصداقة بيننا ذاك الزمان مهراً أبيضاً يلمع في نور المُجتمع، ماءٌ بلون الحليب لا تشوبه شوائب الكذب أو المكر ولا ينفلت عن المَقبول من المسلك. فكَّرتُ قليلاً ثم قلت لنفسي أيمكننا التجريب ؟.
لم أكن أحسب أني أرمِ النردد على أخطر قرار، أو أني أنظُر فنجاناً من قهوة الحياة بعبثية أن تكون هنالكَ أسرة في بُقعة من الوجود أو لا تكون !. رميت النَرد الماجِن على المصائر و أبصرتُ الدُنيا بعيني عَراف عجوز. انتظرت هيَّ بُرهة أطول من عُمرٍ، كأنني أنظر ألوان قهوة كَبِدية اللون، عليها رغوة سمراء فاقعة. لا أدلة من علوم الدُنيا كنتُ استرشِد بها أو كانت تؤسس منطقاً و لا أدفع ببينة أو قرار بحيثيات، بل قبضة حُلمٍ و خاطر. اخترتُ لها خيار الصبر الصعب ، على غير ما كانت تنتظر ! .
قلت لها :
ـ [ لو رميت النرد على القرار الخطير، أو قرأت فنجان الحظ لقلت لكِ اصبُّري. ]
صدقت هيَّ الرؤيا... وبطيبة نفسٍ قَبِلتْ ! . على الدرب سارت الدُنيا مُتقلبة الأهواء، مُشتتة الرغائب. لم تكن كلها خُطىً كُتبت علينا. مصائرنا نملُك بعضها، والبعض الآخر يتقلب على جمار الدهشة والصُدف المُحيَّرة. تأرجحت الآمال في زمان الثمانينات العاصف . صبرت ( أم سماح ) وزوجها عاماً ثم آخر حتى تشققت التُربة وأفصحت النبتة زهرة اختاروا لها اسم ( سَماح ).
قلت لها حينذاك :
ـ [ مَنْ يستحِم في بِركة الصبر يجني الثَمَر. ]
إنها مركِب العُشرة الطيبة وشراكة المصائر. يبدأ العُمر ويكون الإنسان مُتوازناً من بعد العشرين، تتنفس مشاعره الإنسانية وحين لا يوفق في كل رغائب الدُنيا، يملأ التديُّن فراغ العواطف. مضى العُمر مُتدفقاً كعقد تناثرت حباته، الواحدة تلحق بالأخرى . لعل الحاضر قد غسل صفحة الماضي، لقد غلفت ( أم سَماح ) جروح العُمر بغلاف مُذهب، فبعض المصائر لا نَملُك يداً لنُبدلها كما نشاء.
من يا تُرى يفُض غلاف الماضي ويفتح باب القلب في قفصه الصدري ؟
منذ زمان قديم عرفت هيَّ صديقي ( طارق ) حين شاركته زمالة العمل. قالت لي ذات مرة من بعد معرفتهما:
ـ [ صديقك هذا.. ، كأن ملاكاً لبس عظامه بعد أن اكتست لحماً . الطبع العطوف هو سيده ، من يُعاشره يأسره عشقٌ غريب . لا يشبه إلا أبطال الأحلام. هبطت عليَّ محبتُه هبوط الكواسر على لحم الفرائس البض من بعد جوع. أخ لم تلده أم ثم قريب ثم في الذهن وهج تتمناه كل أنثى. كان رفيقاً بكل من عرفه، ومحبته على شُرفة نظرة أو لمسة يد حانية أو أزمة طارئة هو ساحر الخُروج منها. وسامة تقاطيعه كوسامة نفسه، حالمة تُطل علينا. لا يعِدُك إلا بمشقة، وإن وعد فسيهدم كل العقبات الممكنة لينصُركَ. تمجد هذا الكائن الذي نبت بيننا ذات عُمر. أحببتُه ، و انتظرتُ لحظة إفصاحه طويلاً عن مشاعره ولم يُفصِح . الاحترام كان حائطاً زجاجياً بيننا، يُكسبه لمعاناً حين أُبصره. سألته عني كيف يراني ؟ ، فقال : طيبة وجميلة وكريمة الأخلاق. سألته عن المحبة في عالمه، فقال: لم يولد طفلها بعد.
قبل أن تتخلق كائنات العلاقة الخاصة بيننا تقرر نقله خارج الوطن. لم يكن يُحب السفر ولم تألفه المَهاجر . ابتلع قرار سفره كما تعلم يا ( عبد الله ) كمن يبتلع موسىً رُغم مُحفزات العمل.
في وداعه كسرت أنا عُقدة الإفصاح في نفسي ووقفت ضد النُظم غير المرئية للعادات. قبل مصارحته مهدتُ له الأرض ملساء من كل التضاريس ، فأنا سيدة نفسي ، لا طالبة شهوة . قلت لنفسي : أراه يحتاج فُسحة زمان لتتكون المحبة في نفسه. نُبل الأحاسيس الإنسانية عندي مآلها الرباط الوثيق أو تتبدد حُلماً مُراهِقاً . أفصحت له بمشاعر مُبهمة الكلمات و المعاني ثم تحادثنا كثيراً. لمست رفقته و رحمته، لكني لم أر بريق العِشق في عينيه. تفاءلت وقلتُ لنفسي:كأنه قد أخفى عني ما يُضمر بعد أن لمحت في عينيه طفلاً يشبُّ و ينظُر حائراً بلا لُغة. ]
انتهى حديثها.
فرِحت هي بأن في باطن حديثه بعض الأمل. بعد سفره قرأت رسالة دافئة كتبها إليَّ ( طارق )، وكنت من قبل قد كتبت أسأله: ما المصير، وهل تُحبها ؟ . كتب لي:
ـ [ أنا أعزّها، ولها في نفسي كل تقدير، جميلة وطيبة وعلى خُلق، ومن عائلة كريمة كما اعتادت أوصاف أهلنا أن تقول !. أنثى مُكتمل قمرها ، وجمالها خرزة مُميزة في عقد نفيس تلحظها دوماً حين تنظُر العقود التي تُزيِّن الصُدور. طِيب نفسها من رائحة ( الدَّعاش ) من بعد جفافٍ. عيناها مركبتان صنعتا من روائع الخشب الصلد، تجوب بحاراً وأنهارا. إنها أمنية المُتمني و غطاء الدفء عند شتاء العُمر . أما أنا ، فلم يحن موعد تعميدي من سلسبيل العشق بعد . إن قلت لها : أنا عاشق فقد كذِبت . وإن قلت لها : لنتزوج ، ستقول إنني مُشفق على فاتنة تخاف أن تتخطفها نسور الحياة التي تنتظر في أعالي الجبال الكالحة ، تنظُر أين الفرائس التي تجُول بلا تجربة لتستطعِم ! .]
كانت رسالته حيادية الملامِح. يخرُج حديثه بطيئاً وأليفاً. أحسست به يُغلِف مشاعره بورق الاحترام فاختلط الأمر عليَّ. مرَّ زمان و هدأت عواصف ( أم سماح ) العاشقة ، لكن جمر صديقي في نفسها لم يزل يتقد . كتب لها بصفاء عن نفسه دون أن يجرح كبرياءها. مضى عام ونصف العام ولم يزل الحال يُراوح مكانه. ذات يوم كانت مُتكدرة منذ الصباح وإلى الضُحى. جلسنا ساعة زمان قبل أن تُفصِح، ثم حدثتني:
ـ [ تقدم لخطبتي رجل اسمه ( إبراهيم )، التقيت به صدفة خلال يوم عمل، تأخرت مُعاملته بسبب عدم اكتمال الأوراق والمستندات. تجاوزت بيروقراطية الإجراء بما يتطلب دون خرقاً للنُظُم . زارني في العمل عُدة مرات، بسبب معلوم وآخر خفي. لمست انتباهاً في نظراته، بدأ ينظرني مُتفحصاً، وأنا أُصلِح أمامه هندامي وأغطي الفجوات التي تتسلل منها الرغبات. فاجأني ذات مرة حين قال : أنا مُعجب بشخصيتكِ . طيب هو و على خلق. عرفته ولم أزل أراه الآن بعين رمادية، مشاعر بلا شوق، فالعِشق القديم حجب عن نفسي كل المَداخل المُمكِنة لاستعادة النفس ألقها والبصر توقه للآخر. جئت اليوم أشوركَ فأنت تعلم منْ يملُك قلبي. استفتحت ( طارق ) في الأمر بكتاب طلبت رأيه، فكتب في رده إليَّ: لعل في زواجك منه كل الخير، وكاد أن يقتبس من الذكر الحكيم: عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم.. ]
أسرفت هيَّ في التفاصيل، و لمستُ مسحة حُزن على وجهها، وإحساس كثيف بالقهر. أوجعني حديثها وانتابتني الهواجس . غادرتني جسداً يمشي بلا روح . كاتبت صديقي ( طارق ) عنها وأخبرته عن جُرحها النازف، إذ هو يُسرع الخُطى إلى التدمير. تخوَفتُ من كتاب الغيب و دُنيانا وخباياها حين تذبح الدُنيا القلوب على أحراش المراعي وضفاف الغرابة . كتب ( طارق ) إليًَّ بأنه قد طمأنها بأنه يعيش في المهجر خواء عاصف، وأن في حياته أسرارٌ لا يُحب أن يتعرف عليها أحد، تترك مصيره في مهب ريحٍ لا يملك تغييرها. نثر هموم الأسرة المُمتدة بروحٍ مرِحة بدون التفاصيل.
عادت هي لمشورتي كصديق، وكان هذا أول عهدي برمي النرد بين الهوى والأهواء. قلت لها :
ـ [ لعل في زواجك من إبراهيم كل الخير. ]
قالت لي بروح دعابة يشُوبها الحُزن:
ـ [ بِقى دَمَّك تقيل زَي صاحبَكْ ! ]
قلت لنفسي بعد أن ودَعتها:
ـ [ رُبَ قرار يُحاول الإفلات من المشيئة، ثم يُمهِد لها ! . ]
مرَّ زمان، وعلى جمر هادئ تقلب شواء العُمر يُمنة ويُسرى. صحوت إلى الحاضر وقلتُ لنفسي:
ـ [ رُب ( ناجية ) من قرار ساعة حسرة، تُصبِح الآن ( سماحاً ) من بعد سبعة عشر عاماً. باقة وردٍ فوَّاح ينثر طيبه على أسرة مُتوسطة الحال !. ]
يقولون تحوم في الكون أطيافٌ من كل جنس ولون، ونحن ننتظر الحصاد من بعد غيم يتجول حولنا، وفي ساعة صفائه التي لا نعرف ميعاداً لها.. يُمطر ! .
عبد الله الشقليني
22/07/2006 م
[/size][/size][/color]
كتبنا في سودانايل قص ، لفافة من ذكريات العُمر :
العُشرة الطيِّبة
تلقيت رسالة عبر الهاتف النقال من ( أم سماح ) تقول:
ـ [ أحرزت ( سماح ) نسبة عامة تبلغ تسعين في المائة في اختبارات الشهادة الثانوية السودانية. ]
فرحت لهما من قلبي، وحدثتها عبر الهاتف من دولة أخرى مُبارِكاً.
قلت لها:
ـ [ غريب هذا الزمان.. لو فارقتِ أباها قبل تكوّن بذرة حياتها الأولى، لما كانت ( سَماح ) قد تَخلَّقت ثم نشأت، ولما سعد بها قلبكِ الآن !. ]
قالت وكأني أراها مُتبسِمة:
ـ [ إنك لم تنسَ أبداً.. كانت مشُورتكَ و صبرنا. رزقنا المولى بها أولاً، ثم بنجاحها، وها نحن الآن مغمُورين بفيض و نعجز أن نوفِ المولى حقه من التبجيل.]
ضحكت أنا.. وتذكرت تفاصيل يوم من تاريخ قديم كانت هي عازمة أن تُفارق ( إبراهيم ) زوجها . كان الوقت حينها من بعد منتصف نهار يوم عملٍ شاق، قُلنا لنسترح. رويداً ثم فتحنا أغلفة القلوب المُتعَبة. قالت :
ـ [ إن زواجي من ( إبراهيم ) عُشرة طيبة بلا محبة عِشق. زوج كريم وشهم . كزواج الجدَّات في المجتمع القديم، جَربنا العُشرة بلونٍ جديد وسارت بنا الدُنيا بلا ضجيج. إن رضينا اليوم بالعُشرة دون محبة عشقٍ، فلن تُرضينا الحياة بلا إنجاب، فذلك قتل بطيء لا أرضاه لنفسي.]
قلت لها:
ـ[ أعرضتُما أنفُسكما على الطب ؟ ]
ردت:
ـ [ نعم... فزوجي الآن تحت العلاج ويحتاج الكثير من الصبر. رُب ثمرة نُنجبها ، وربما بلا ثمار !. عُمر الإنجاب عندنا محدود كما تعلم، فما العمل ؟ . أقبلُ أنا نصيحتك، فأنت رفيق دربٍ وصديق من العُمر النبيل. يقولون الصديق بوصلة الحِكمة.]
كانت الصداقة بيننا ذاك الزمان مهراً أبيضاً يلمع في نور المُجتمع، ماءٌ بلون الحليب لا تشوبه شوائب الكذب أو المكر ولا ينفلت عن المَقبول من المسلك. فكَّرتُ قليلاً ثم قلت لنفسي أيمكننا التجريب ؟.
لم أكن أحسب أني أرمِ النردد على أخطر قرار، أو أني أنظُر فنجاناً من قهوة الحياة بعبثية أن تكون هنالكَ أسرة في بُقعة من الوجود أو لا تكون !. رميت النَرد الماجِن على المصائر و أبصرتُ الدُنيا بعيني عَراف عجوز. انتظرت هيَّ بُرهة أطول من عُمرٍ، كأنني أنظر ألوان قهوة كَبِدية اللون، عليها رغوة سمراء فاقعة. لا أدلة من علوم الدُنيا كنتُ استرشِد بها أو كانت تؤسس منطقاً و لا أدفع ببينة أو قرار بحيثيات، بل قبضة حُلمٍ و خاطر. اخترتُ لها خيار الصبر الصعب ، على غير ما كانت تنتظر ! .
قلت لها :
ـ [ لو رميت النرد على القرار الخطير، أو قرأت فنجان الحظ لقلت لكِ اصبُّري. ]
صدقت هيَّ الرؤيا... وبطيبة نفسٍ قَبِلتْ ! . على الدرب سارت الدُنيا مُتقلبة الأهواء، مُشتتة الرغائب. لم تكن كلها خُطىً كُتبت علينا. مصائرنا نملُك بعضها، والبعض الآخر يتقلب على جمار الدهشة والصُدف المُحيَّرة. تأرجحت الآمال في زمان الثمانينات العاصف . صبرت ( أم سماح ) وزوجها عاماً ثم آخر حتى تشققت التُربة وأفصحت النبتة زهرة اختاروا لها اسم ( سَماح ).
قلت لها حينذاك :
ـ [ مَنْ يستحِم في بِركة الصبر يجني الثَمَر. ]
إنها مركِب العُشرة الطيبة وشراكة المصائر. يبدأ العُمر ويكون الإنسان مُتوازناً من بعد العشرين، تتنفس مشاعره الإنسانية وحين لا يوفق في كل رغائب الدُنيا، يملأ التديُّن فراغ العواطف. مضى العُمر مُتدفقاً كعقد تناثرت حباته، الواحدة تلحق بالأخرى . لعل الحاضر قد غسل صفحة الماضي، لقد غلفت ( أم سَماح ) جروح العُمر بغلاف مُذهب، فبعض المصائر لا نَملُك يداً لنُبدلها كما نشاء.
من يا تُرى يفُض غلاف الماضي ويفتح باب القلب في قفصه الصدري ؟
منذ زمان قديم عرفت هيَّ صديقي ( طارق ) حين شاركته زمالة العمل. قالت لي ذات مرة من بعد معرفتهما:
ـ [ صديقك هذا.. ، كأن ملاكاً لبس عظامه بعد أن اكتست لحماً . الطبع العطوف هو سيده ، من يُعاشره يأسره عشقٌ غريب . لا يشبه إلا أبطال الأحلام. هبطت عليَّ محبتُه هبوط الكواسر على لحم الفرائس البض من بعد جوع. أخ لم تلده أم ثم قريب ثم في الذهن وهج تتمناه كل أنثى. كان رفيقاً بكل من عرفه، ومحبته على شُرفة نظرة أو لمسة يد حانية أو أزمة طارئة هو ساحر الخُروج منها. وسامة تقاطيعه كوسامة نفسه، حالمة تُطل علينا. لا يعِدُك إلا بمشقة، وإن وعد فسيهدم كل العقبات الممكنة لينصُركَ. تمجد هذا الكائن الذي نبت بيننا ذات عُمر. أحببتُه ، و انتظرتُ لحظة إفصاحه طويلاً عن مشاعره ولم يُفصِح . الاحترام كان حائطاً زجاجياً بيننا، يُكسبه لمعاناً حين أُبصره. سألته عني كيف يراني ؟ ، فقال : طيبة وجميلة وكريمة الأخلاق. سألته عن المحبة في عالمه، فقال: لم يولد طفلها بعد.
قبل أن تتخلق كائنات العلاقة الخاصة بيننا تقرر نقله خارج الوطن. لم يكن يُحب السفر ولم تألفه المَهاجر . ابتلع قرار سفره كما تعلم يا ( عبد الله ) كمن يبتلع موسىً رُغم مُحفزات العمل.
في وداعه كسرت أنا عُقدة الإفصاح في نفسي ووقفت ضد النُظم غير المرئية للعادات. قبل مصارحته مهدتُ له الأرض ملساء من كل التضاريس ، فأنا سيدة نفسي ، لا طالبة شهوة . قلت لنفسي : أراه يحتاج فُسحة زمان لتتكون المحبة في نفسه. نُبل الأحاسيس الإنسانية عندي مآلها الرباط الوثيق أو تتبدد حُلماً مُراهِقاً . أفصحت له بمشاعر مُبهمة الكلمات و المعاني ثم تحادثنا كثيراً. لمست رفقته و رحمته، لكني لم أر بريق العِشق في عينيه. تفاءلت وقلتُ لنفسي:كأنه قد أخفى عني ما يُضمر بعد أن لمحت في عينيه طفلاً يشبُّ و ينظُر حائراً بلا لُغة. ]
انتهى حديثها.
فرِحت هي بأن في باطن حديثه بعض الأمل. بعد سفره قرأت رسالة دافئة كتبها إليَّ ( طارق )، وكنت من قبل قد كتبت أسأله: ما المصير، وهل تُحبها ؟ . كتب لي:
ـ [ أنا أعزّها، ولها في نفسي كل تقدير، جميلة وطيبة وعلى خُلق، ومن عائلة كريمة كما اعتادت أوصاف أهلنا أن تقول !. أنثى مُكتمل قمرها ، وجمالها خرزة مُميزة في عقد نفيس تلحظها دوماً حين تنظُر العقود التي تُزيِّن الصُدور. طِيب نفسها من رائحة ( الدَّعاش ) من بعد جفافٍ. عيناها مركبتان صنعتا من روائع الخشب الصلد، تجوب بحاراً وأنهارا. إنها أمنية المُتمني و غطاء الدفء عند شتاء العُمر . أما أنا ، فلم يحن موعد تعميدي من سلسبيل العشق بعد . إن قلت لها : أنا عاشق فقد كذِبت . وإن قلت لها : لنتزوج ، ستقول إنني مُشفق على فاتنة تخاف أن تتخطفها نسور الحياة التي تنتظر في أعالي الجبال الكالحة ، تنظُر أين الفرائس التي تجُول بلا تجربة لتستطعِم ! .]
كانت رسالته حيادية الملامِح. يخرُج حديثه بطيئاً وأليفاً. أحسست به يُغلِف مشاعره بورق الاحترام فاختلط الأمر عليَّ. مرَّ زمان و هدأت عواصف ( أم سماح ) العاشقة ، لكن جمر صديقي في نفسها لم يزل يتقد . كتب لها بصفاء عن نفسه دون أن يجرح كبرياءها. مضى عام ونصف العام ولم يزل الحال يُراوح مكانه. ذات يوم كانت مُتكدرة منذ الصباح وإلى الضُحى. جلسنا ساعة زمان قبل أن تُفصِح، ثم حدثتني:
ـ [ تقدم لخطبتي رجل اسمه ( إبراهيم )، التقيت به صدفة خلال يوم عمل، تأخرت مُعاملته بسبب عدم اكتمال الأوراق والمستندات. تجاوزت بيروقراطية الإجراء بما يتطلب دون خرقاً للنُظُم . زارني في العمل عُدة مرات، بسبب معلوم وآخر خفي. لمست انتباهاً في نظراته، بدأ ينظرني مُتفحصاً، وأنا أُصلِح أمامه هندامي وأغطي الفجوات التي تتسلل منها الرغبات. فاجأني ذات مرة حين قال : أنا مُعجب بشخصيتكِ . طيب هو و على خلق. عرفته ولم أزل أراه الآن بعين رمادية، مشاعر بلا شوق، فالعِشق القديم حجب عن نفسي كل المَداخل المُمكِنة لاستعادة النفس ألقها والبصر توقه للآخر. جئت اليوم أشوركَ فأنت تعلم منْ يملُك قلبي. استفتحت ( طارق ) في الأمر بكتاب طلبت رأيه، فكتب في رده إليَّ: لعل في زواجك منه كل الخير، وكاد أن يقتبس من الذكر الحكيم: عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم.. ]
أسرفت هيَّ في التفاصيل، و لمستُ مسحة حُزن على وجهها، وإحساس كثيف بالقهر. أوجعني حديثها وانتابتني الهواجس . غادرتني جسداً يمشي بلا روح . كاتبت صديقي ( طارق ) عنها وأخبرته عن جُرحها النازف، إذ هو يُسرع الخُطى إلى التدمير. تخوَفتُ من كتاب الغيب و دُنيانا وخباياها حين تذبح الدُنيا القلوب على أحراش المراعي وضفاف الغرابة . كتب ( طارق ) إليًَّ بأنه قد طمأنها بأنه يعيش في المهجر خواء عاصف، وأن في حياته أسرارٌ لا يُحب أن يتعرف عليها أحد، تترك مصيره في مهب ريحٍ لا يملك تغييرها. نثر هموم الأسرة المُمتدة بروحٍ مرِحة بدون التفاصيل.
عادت هي لمشورتي كصديق، وكان هذا أول عهدي برمي النرد بين الهوى والأهواء. قلت لها :
ـ [ لعل في زواجك من إبراهيم كل الخير. ]
قالت لي بروح دعابة يشُوبها الحُزن:
ـ [ بِقى دَمَّك تقيل زَي صاحبَكْ ! ]
قلت لنفسي بعد أن ودَعتها:
ـ [ رُبَ قرار يُحاول الإفلات من المشيئة، ثم يُمهِد لها ! . ]
مرَّ زمان، وعلى جمر هادئ تقلب شواء العُمر يُمنة ويُسرى. صحوت إلى الحاضر وقلتُ لنفسي:
ـ [ رُب ( ناجية ) من قرار ساعة حسرة، تُصبِح الآن ( سماحاً ) من بعد سبعة عشر عاماً. باقة وردٍ فوَّاح ينثر طيبه على أسرة مُتوسطة الحال !. ]
يقولون تحوم في الكون أطيافٌ من كل جنس ولون، ونحن ننتظر الحصاد من بعد غيم يتجول حولنا، وفي ساعة صفائه التي لا نعرف ميعاداً لها.. يُمطر ! .
عبد الله الشقليني
22/07/2006 م
[/size][/size][/color]