عبدالله الشقليني
28-11-2006, 01:20 PM
وطني .. سماؤكَ أنجُمٌ وبحرُكَ أهوال .
(1)
زعموا سلوتُكَ !، لكنك موطني تتبدى دوماً في الملامح والقسمات : أَعْلى الأوجه أو عَلى الخدود والشفاه أو نقشاً على السواعد أو مجزرة إن هبطنا قُرب أقلام الكتابة وأحبار التكاثُر . إنه نسيج الزمن الغابر ، تبقَّى من إرثه الكثير في أشباه المُدن والأرياف ! . يحفر الطيبون بالجمر على أجسادهم لتمييز الهوية و غرائب التُراث ! .
وطني .. سماؤكَ أنجُمٌ وبحرُكَ أهوال .
أبناؤك يا وطني لا يعرفون كيف يكون حُبك راعِشاً يصعد أحلامنا ، أو خائفاً يهبُط بؤسنا . الوطن طفل خَطفت بُكاؤه الحَيرة ، وأهله يتقاتلون : مَنْ يكفَلُه ، أو مَنْ يأخُذه لنفسه !.
(2)
يقولون : ارتجَّت الأرض قبل أكثر من اثنتي عشر ألف عام قُرب البُحيرة التي سماها المُستعمر باسم فكتوريا ، زُلزِلت الأرض من غليان بواطنها وأفسحت الطريق للنهر العظيم أن يشُق مساره من مُرتفعات أواسط إفريقيا وعبر الأرض التي عليها الآن نصطرع ثم إلى مصرَ ثم الأبيض المتوسط . يأخذ في طريقه الرزق من الروافد لتُعينه على الدرب الطويل ، ومن أثداء الحنين يرضع الجميع ماء الحياة . ترتمي العذوبة النقية آخر المطاف على أحضان البحر و الملح .
نهضت الأشجار واعشوشبت الأرض وتقاطرت الكائنات الزاحفة والراجلة والطائرة والمُغردة في الأفنان على طرفي النهر أو عند الواحات . تجمع البشر هابطين إلى الوادي يستسقون هُم و رَعيَّهم ، و يزرع منهم من رغب الاستيطان . جاء المُهاجرون ، تعايشوا و تصاهر بعضهم ... ثم شبَّ النـزاع . مَنْ يقول إنهم تآلفوا أحبةً فقد تفاءل بالتاريخ أكثر مما ينبغي ، فالنوايا الطيبة لا تُحرك أحداث التاريخ ، وما غرزه الزمان في أفضل ظننا به ، حُلماً نفيق منه مذعورين عند أول مُنعطف !.
(3)
بمدية المُستعمر الجارحة تحددت الأوطان وفق السباق على الغزو من أجل نهب الثروة وفتح الأسواق . نهضت الحواجز تُفصل العشائر عن بعضها وأقام المسّاحون حدود الأوطان .
كان الصفاء بين الأقوام في وطننا أكذوبةً كُبرى ، استسهلنا الغناء لها ليبقى الوطن بسجادته المُتسعة حياً يُرزق ، نضَع الحجارة والأثقال على أطراف تلك السجادة حين تعبث بها ريح الأهواء . استعصت الحلول على الجميع ، وعَظُم الأمر إذ لم يكن في آفاق أهلنا رؤية !.
عندما يهُم ( الشُلك ) أن يُنَصِّبوا ( رثاً ) لهم في ( فشودة ) ، تأتي الوفود المُبارِكة من أطراف الوطن و من بلاد الحبشة رغم أنف الحدود ! . وعندما أغار ( الدفتردار ) في الزمان الغابر مُنتقماً لمقتل إسماعيل باشا منذ ما يقارب قرنين من الزمان ، فرَّ الأهالي إلي أرض البطانة ثم إلى الجار الأقرب في الشرق ، يحتمون بالعشيرة الكُبرى من بغي المُعتدي .
(4)
شاهدت برنامجاً مصوراً لقناة الجزيرة الفضائية عن النوبة جنوب مصر ، اختلطت فيه الرواية بالمقابلات الشخصية والسرد المُبرمَج . إنها صناعة الخبر تختلط بصناعة الرأي ، مُستخدمة تقنية الفن السابع . لكنك تقرأ الكثير من طيف المقابلات وردود أهالي النوبة الذين تم تهجيرهم من قُراهم جنوب مصر بسبب مشروع السد العالي . كل ما دفنه التاريخ منذ بدء ستينات القرن الماضي، تجده وقد نهض قائماً يُقطر دماً !.
نحر الغُبن أكباد الذين شهدوا المأساة وأهوال التهجير . نعلم أن النكبة بسبب السد لم تصب أهل حلفا وحدهم ومن هُجِّر منهم لخشم القربة وأُغرقت حتى المآذن من بعد غرق الحضارة التي لم تزل أرضها بكراً تنتظر الكشوف الأثرية ، بل النوبة الذين بقوا في مصر تفصلهم الحدود عن بقية أهلهم في السودان ، فقد تم ترحيلهم قسراً عن الأرض الزراعية جوار النيل إلى الجبال ووحشة حجارتها . لست في حضرة أن أسرد كيف تكون للتنمية ثمناً فادحاً ، لكنني أقرأ أن هنالك شعوباً فرقت لُحمتها أعاجيب الغُزاة حيناً، و ما يتطلبه بُعد النظر الاقتصادي من تعديل لمجرى النهر العظيم بحُكم الدولة وسلطانها المُطلق على الجميع . على أَظهُر الضعفاء دوماً يرتمي الحمل الثقيل . و مَنْ قال إن مصر هبة النيل فقد صدق ، وصدق أيضاً مَنْ قال أن أهالي النوبة دفعوا الثمن الباهظ ! .
لن تَعجب أنتَ إن علمت أن بعض الرسميين السودانيين من أصل نوبي ، عند قدومهم للأقصر في مصر لمهام رسمية ،يأخذهم الأهالي قسراً من الفنادق لبيوت الألفة وضيافة العشيرة . عندها تصفو الأنفُس من ضباب الغُربة المُفتعَلة ، ويستطعم الجميع طعام البيئة و دفء الحديث باللُغة المحلية !.
(5)
في السنوات الأخيرة لحُكم ( عيدي أمين ) في يوغندا أواخر سبعينات القرن الماضي ، كان كبار ضباط القوات المُسلحة في الجيش اليوغندي يذهبون في العُطلات لأهاليهم في جنوب السودان ، الحدود تفصل الأهل عن بعضهم لكن الحنين إلى العشيرة أعمق . كان الأهالي يعرفون أن القابضين على دفة الحُكم في ذلك الزمان أغلبهم من العشائر التي قسمتها حُدود المُستعمر بين السودان و يوغندا ! .
إن حدود السودان التي رسمها المُستعمر تُراوح جراحاتها في أهلنا الذين يقطنون قُرب الدول المجاورة ، و لا أحد يتسع صدره ليقرأ أفاعيل الأمم ! .
أترانا نشهد عودة أفراح الذين تشتتوا بين الأوطان التي سيَّجها المُستعمرون كما حدث لبرلين ؟
(6)
أي موعد ينتظركَ موطني ، في زمان الحسرة والأسف ؟
يقولون : الدولة الكُبرى عندنا تنهض مع الحُكم الغليظ ، وتتداعى عند ارتخاء قبضته الحديدية ، والماضي والحاضر أصدق مرآة . تتململ القوميات الآن تبحث عن أعشاش أوطانٍ صغيرة هرباً من قهر الأقوياء ، فحُلم الوطن الكبير الذي نعرفه ، يتعرض الآن لسيول التعرية وغسل الذواكر و تفريغ الأحلام . من يتتبع الحدود والأطراف ، يجد دول الجوار تقضُم ما شاء لها من أرض الوطن بعلم بعضنا حيناً ، وبنعيم الغفلة أحياناً أخرى ! .
(7)
نهضت العصبيات في حاضرنا من رماد الماضي أغلظ مما كُنا نحسب ، وكلنا يعلم مَنْ زرع نبتتها السَّامة . تسلل بخور الألفة عن مجالس حكاوي الوطن الدافئة ، وصارت الوطنية موضعاً للسُخرية والتندُر ! .
قال أحدهم يكتُب في السماوات المقروءة :
حضرت اجتماعاً في المهجر من أجل ما حلَّ بدارفور .
سألوني : من أنت ؟
قلت : سوداني .
قالوا : من أي القبائل في دارفور ؟
قلت : أنا سوداني .
قالوا : أنتَ لم تجب على سؤالنا !.
قلت : أنا من صفحة أخرى من صفحات الوطن .
قالوا : هذا لا يكفي . هُنا يجلس معنا من يحمل الوجع .
تكرر الأمر في أكثر من بقعة من بقاع الشتات !.
كتب آخر عن القبيلة و إيديولوجيتها ، يستنصِر بها في وجه ما يحدث !
أ هذا هو أُفق الحلَّ ؟
أ نـرتد عن الوطن إلى حمى القبيلة ،
ونحن نحلُم أن نُمني أنفسنا بأن نقفز بالوطن بعد استيفاء محبته إلى الإنسانية ؟ .
أ نحتاج بالفعل أن نعود إلى العِرق والقبيلة والطائفة للحلّ ؟
نحن نعلم تعقيد مجتمعات الأرياف ، وثقافة الطوائف والقبائل والأعراق وصراعاتها قبل أزمة دار فور ، ونعلم متى تُقام مؤتمرات الصُلح لحل صراع العشائر ودفع ديَّات قتلى المعارك . و نعلم أزمة التوازن الهش بين المُتجاورين حين يبدأ شجاراً بين اثنين ، ثم يمتد لمئات الضحايا ، وتتكرر المآسي كل موسم وكل عام !. لكننا نعلم أيضاً في أي بقاع السودان هجد غليان الصراع وتحول قنديلاً للتنوع ويصلُح مثلاً يحتذى ،
فمن أيقظ الفتنة النائمة ؟.
أيحِل الاستغراق في ثقافة القبائل والأعراق والطوائف أزمة الحاضر أم يزيدها تعقيداً ؟
(8)
قال لي أحد الأقرباء يعمل في المهجر :
ـ سألتني ابنتي التي تدرس بجامعة الخرطوم ، من أي القبائل نحن ! . قلت لها : لِمَ السؤال ؟ . قالت : زميلاتي في الجامعة يسألنَّ وأنا لا أعرف ، وكان سؤالهُنَّ الاستنكاري :
( إنتي مَقطُوعة من شجرة ؟ ) ثم تغيرت مُعاملتهُن !.
قلت لها : أنتِ سودانية فحسب ، وأفضل لكِ أن تتخيري رفقة أطيب .
(9)
العالم يتقدم ويأخذ بأسباب الرُقي ويُسابق بعضه بعضا ، ونحن نستل سيوف العصبية لنُصارع بعضنا !. أ نظُن أن العالم ينتظر ، ونحن لا نملُك بوصلة رؤية أو قيمة للزمن ؟ . يتنازع أبناء المعمورة الآن على ممالك العِلم و الصناعة و المياه الإقليمية و الفضاء والسماوات وترتيب سفنها ، وهيمنة رأس المال وحوتُه الذي لا يشبع . أين نحن من كل ذلك ؟ : سبات عميق لأهل كهف جديد ، نلمس لحمه بأيدينا ونتحسس عظامه !! .
كنوز الوطن الموعودة بالنهب تلمعُ قناديلها تحت الشمس ، و رأس المال الذي لا يعرف الحدود يطوي صفحة الكون مُتعجلاً في بُرهة ، وفي طرفة عين يكون قد جنى الأرباح ! . لن يجد من تبقى من أبناء الوطن هذا النعيم الذي يرقد تحت أرجلهم ليتقاتلوا عليه ! .
من بعد نثر عطور الشفقة الإنسانية ، سيهبط أرضنا فهود العالم الأول ، لقد آن أوان المستعمرين الجُدد ليسرجوا خيل الغزو لنهب الخيرات في زمن تعلو فيه المصالح من فوق كل عُرف و خُلُق ، والجميع عندنا يتقلبون في نعيم الغفلة !.
هل يأتي التقسيم بخيله والركبان ونتدافع نحن بالمناكب لحجز أماكننا لمشاهدة الخيبة الكُبرى ، أم ينهض الوعي الجمعي في الوقت المُناسب قبل الانهيار؟ .
عبد الله الشقليني
24/10/2006 م
(1)
زعموا سلوتُكَ !، لكنك موطني تتبدى دوماً في الملامح والقسمات : أَعْلى الأوجه أو عَلى الخدود والشفاه أو نقشاً على السواعد أو مجزرة إن هبطنا قُرب أقلام الكتابة وأحبار التكاثُر . إنه نسيج الزمن الغابر ، تبقَّى من إرثه الكثير في أشباه المُدن والأرياف ! . يحفر الطيبون بالجمر على أجسادهم لتمييز الهوية و غرائب التُراث ! .
وطني .. سماؤكَ أنجُمٌ وبحرُكَ أهوال .
أبناؤك يا وطني لا يعرفون كيف يكون حُبك راعِشاً يصعد أحلامنا ، أو خائفاً يهبُط بؤسنا . الوطن طفل خَطفت بُكاؤه الحَيرة ، وأهله يتقاتلون : مَنْ يكفَلُه ، أو مَنْ يأخُذه لنفسه !.
(2)
يقولون : ارتجَّت الأرض قبل أكثر من اثنتي عشر ألف عام قُرب البُحيرة التي سماها المُستعمر باسم فكتوريا ، زُلزِلت الأرض من غليان بواطنها وأفسحت الطريق للنهر العظيم أن يشُق مساره من مُرتفعات أواسط إفريقيا وعبر الأرض التي عليها الآن نصطرع ثم إلى مصرَ ثم الأبيض المتوسط . يأخذ في طريقه الرزق من الروافد لتُعينه على الدرب الطويل ، ومن أثداء الحنين يرضع الجميع ماء الحياة . ترتمي العذوبة النقية آخر المطاف على أحضان البحر و الملح .
نهضت الأشجار واعشوشبت الأرض وتقاطرت الكائنات الزاحفة والراجلة والطائرة والمُغردة في الأفنان على طرفي النهر أو عند الواحات . تجمع البشر هابطين إلى الوادي يستسقون هُم و رَعيَّهم ، و يزرع منهم من رغب الاستيطان . جاء المُهاجرون ، تعايشوا و تصاهر بعضهم ... ثم شبَّ النـزاع . مَنْ يقول إنهم تآلفوا أحبةً فقد تفاءل بالتاريخ أكثر مما ينبغي ، فالنوايا الطيبة لا تُحرك أحداث التاريخ ، وما غرزه الزمان في أفضل ظننا به ، حُلماً نفيق منه مذعورين عند أول مُنعطف !.
(3)
بمدية المُستعمر الجارحة تحددت الأوطان وفق السباق على الغزو من أجل نهب الثروة وفتح الأسواق . نهضت الحواجز تُفصل العشائر عن بعضها وأقام المسّاحون حدود الأوطان .
كان الصفاء بين الأقوام في وطننا أكذوبةً كُبرى ، استسهلنا الغناء لها ليبقى الوطن بسجادته المُتسعة حياً يُرزق ، نضَع الحجارة والأثقال على أطراف تلك السجادة حين تعبث بها ريح الأهواء . استعصت الحلول على الجميع ، وعَظُم الأمر إذ لم يكن في آفاق أهلنا رؤية !.
عندما يهُم ( الشُلك ) أن يُنَصِّبوا ( رثاً ) لهم في ( فشودة ) ، تأتي الوفود المُبارِكة من أطراف الوطن و من بلاد الحبشة رغم أنف الحدود ! . وعندما أغار ( الدفتردار ) في الزمان الغابر مُنتقماً لمقتل إسماعيل باشا منذ ما يقارب قرنين من الزمان ، فرَّ الأهالي إلي أرض البطانة ثم إلى الجار الأقرب في الشرق ، يحتمون بالعشيرة الكُبرى من بغي المُعتدي .
(4)
شاهدت برنامجاً مصوراً لقناة الجزيرة الفضائية عن النوبة جنوب مصر ، اختلطت فيه الرواية بالمقابلات الشخصية والسرد المُبرمَج . إنها صناعة الخبر تختلط بصناعة الرأي ، مُستخدمة تقنية الفن السابع . لكنك تقرأ الكثير من طيف المقابلات وردود أهالي النوبة الذين تم تهجيرهم من قُراهم جنوب مصر بسبب مشروع السد العالي . كل ما دفنه التاريخ منذ بدء ستينات القرن الماضي، تجده وقد نهض قائماً يُقطر دماً !.
نحر الغُبن أكباد الذين شهدوا المأساة وأهوال التهجير . نعلم أن النكبة بسبب السد لم تصب أهل حلفا وحدهم ومن هُجِّر منهم لخشم القربة وأُغرقت حتى المآذن من بعد غرق الحضارة التي لم تزل أرضها بكراً تنتظر الكشوف الأثرية ، بل النوبة الذين بقوا في مصر تفصلهم الحدود عن بقية أهلهم في السودان ، فقد تم ترحيلهم قسراً عن الأرض الزراعية جوار النيل إلى الجبال ووحشة حجارتها . لست في حضرة أن أسرد كيف تكون للتنمية ثمناً فادحاً ، لكنني أقرأ أن هنالك شعوباً فرقت لُحمتها أعاجيب الغُزاة حيناً، و ما يتطلبه بُعد النظر الاقتصادي من تعديل لمجرى النهر العظيم بحُكم الدولة وسلطانها المُطلق على الجميع . على أَظهُر الضعفاء دوماً يرتمي الحمل الثقيل . و مَنْ قال إن مصر هبة النيل فقد صدق ، وصدق أيضاً مَنْ قال أن أهالي النوبة دفعوا الثمن الباهظ ! .
لن تَعجب أنتَ إن علمت أن بعض الرسميين السودانيين من أصل نوبي ، عند قدومهم للأقصر في مصر لمهام رسمية ،يأخذهم الأهالي قسراً من الفنادق لبيوت الألفة وضيافة العشيرة . عندها تصفو الأنفُس من ضباب الغُربة المُفتعَلة ، ويستطعم الجميع طعام البيئة و دفء الحديث باللُغة المحلية !.
(5)
في السنوات الأخيرة لحُكم ( عيدي أمين ) في يوغندا أواخر سبعينات القرن الماضي ، كان كبار ضباط القوات المُسلحة في الجيش اليوغندي يذهبون في العُطلات لأهاليهم في جنوب السودان ، الحدود تفصل الأهل عن بعضهم لكن الحنين إلى العشيرة أعمق . كان الأهالي يعرفون أن القابضين على دفة الحُكم في ذلك الزمان أغلبهم من العشائر التي قسمتها حُدود المُستعمر بين السودان و يوغندا ! .
إن حدود السودان التي رسمها المُستعمر تُراوح جراحاتها في أهلنا الذين يقطنون قُرب الدول المجاورة ، و لا أحد يتسع صدره ليقرأ أفاعيل الأمم ! .
أترانا نشهد عودة أفراح الذين تشتتوا بين الأوطان التي سيَّجها المُستعمرون كما حدث لبرلين ؟
(6)
أي موعد ينتظركَ موطني ، في زمان الحسرة والأسف ؟
يقولون : الدولة الكُبرى عندنا تنهض مع الحُكم الغليظ ، وتتداعى عند ارتخاء قبضته الحديدية ، والماضي والحاضر أصدق مرآة . تتململ القوميات الآن تبحث عن أعشاش أوطانٍ صغيرة هرباً من قهر الأقوياء ، فحُلم الوطن الكبير الذي نعرفه ، يتعرض الآن لسيول التعرية وغسل الذواكر و تفريغ الأحلام . من يتتبع الحدود والأطراف ، يجد دول الجوار تقضُم ما شاء لها من أرض الوطن بعلم بعضنا حيناً ، وبنعيم الغفلة أحياناً أخرى ! .
(7)
نهضت العصبيات في حاضرنا من رماد الماضي أغلظ مما كُنا نحسب ، وكلنا يعلم مَنْ زرع نبتتها السَّامة . تسلل بخور الألفة عن مجالس حكاوي الوطن الدافئة ، وصارت الوطنية موضعاً للسُخرية والتندُر ! .
قال أحدهم يكتُب في السماوات المقروءة :
حضرت اجتماعاً في المهجر من أجل ما حلَّ بدارفور .
سألوني : من أنت ؟
قلت : سوداني .
قالوا : من أي القبائل في دارفور ؟
قلت : أنا سوداني .
قالوا : أنتَ لم تجب على سؤالنا !.
قلت : أنا من صفحة أخرى من صفحات الوطن .
قالوا : هذا لا يكفي . هُنا يجلس معنا من يحمل الوجع .
تكرر الأمر في أكثر من بقعة من بقاع الشتات !.
كتب آخر عن القبيلة و إيديولوجيتها ، يستنصِر بها في وجه ما يحدث !
أ هذا هو أُفق الحلَّ ؟
أ نـرتد عن الوطن إلى حمى القبيلة ،
ونحن نحلُم أن نُمني أنفسنا بأن نقفز بالوطن بعد استيفاء محبته إلى الإنسانية ؟ .
أ نحتاج بالفعل أن نعود إلى العِرق والقبيلة والطائفة للحلّ ؟
نحن نعلم تعقيد مجتمعات الأرياف ، وثقافة الطوائف والقبائل والأعراق وصراعاتها قبل أزمة دار فور ، ونعلم متى تُقام مؤتمرات الصُلح لحل صراع العشائر ودفع ديَّات قتلى المعارك . و نعلم أزمة التوازن الهش بين المُتجاورين حين يبدأ شجاراً بين اثنين ، ثم يمتد لمئات الضحايا ، وتتكرر المآسي كل موسم وكل عام !. لكننا نعلم أيضاً في أي بقاع السودان هجد غليان الصراع وتحول قنديلاً للتنوع ويصلُح مثلاً يحتذى ،
فمن أيقظ الفتنة النائمة ؟.
أيحِل الاستغراق في ثقافة القبائل والأعراق والطوائف أزمة الحاضر أم يزيدها تعقيداً ؟
(8)
قال لي أحد الأقرباء يعمل في المهجر :
ـ سألتني ابنتي التي تدرس بجامعة الخرطوم ، من أي القبائل نحن ! . قلت لها : لِمَ السؤال ؟ . قالت : زميلاتي في الجامعة يسألنَّ وأنا لا أعرف ، وكان سؤالهُنَّ الاستنكاري :
( إنتي مَقطُوعة من شجرة ؟ ) ثم تغيرت مُعاملتهُن !.
قلت لها : أنتِ سودانية فحسب ، وأفضل لكِ أن تتخيري رفقة أطيب .
(9)
العالم يتقدم ويأخذ بأسباب الرُقي ويُسابق بعضه بعضا ، ونحن نستل سيوف العصبية لنُصارع بعضنا !. أ نظُن أن العالم ينتظر ، ونحن لا نملُك بوصلة رؤية أو قيمة للزمن ؟ . يتنازع أبناء المعمورة الآن على ممالك العِلم و الصناعة و المياه الإقليمية و الفضاء والسماوات وترتيب سفنها ، وهيمنة رأس المال وحوتُه الذي لا يشبع . أين نحن من كل ذلك ؟ : سبات عميق لأهل كهف جديد ، نلمس لحمه بأيدينا ونتحسس عظامه !! .
كنوز الوطن الموعودة بالنهب تلمعُ قناديلها تحت الشمس ، و رأس المال الذي لا يعرف الحدود يطوي صفحة الكون مُتعجلاً في بُرهة ، وفي طرفة عين يكون قد جنى الأرباح ! . لن يجد من تبقى من أبناء الوطن هذا النعيم الذي يرقد تحت أرجلهم ليتقاتلوا عليه ! .
من بعد نثر عطور الشفقة الإنسانية ، سيهبط أرضنا فهود العالم الأول ، لقد آن أوان المستعمرين الجُدد ليسرجوا خيل الغزو لنهب الخيرات في زمن تعلو فيه المصالح من فوق كل عُرف و خُلُق ، والجميع عندنا يتقلبون في نعيم الغفلة !.
هل يأتي التقسيم بخيله والركبان ونتدافع نحن بالمناكب لحجز أماكننا لمشاهدة الخيبة الكُبرى ، أم ينهض الوعي الجمعي في الوقت المُناسب قبل الانهيار؟ .
عبد الله الشقليني
24/10/2006 م