المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الآفروعربية أو تحالف الهاربين/ أ.د. عبدالله علي إبراهيم


imported_عبدالله الشقليني
14-05-2020, 12:32 PM
الآفروعربية ..أو تحالف الهاربين

د.عبدالله علي ابراهيم


القصد من هذه الكلمة أن نتفحص نقديا مفهوم " الأفروعربية " الذي استقر كوصف لثقافة الجماعة الشمالية العربية المسلمة على النيل البوادي . لقد اكتسب المفهوم أبعادا ودلالات شتى في مساره ، وارتبط بمصالح واستراتيجيات سياسية وتجارية وثقافية مختلفة . غير أن تقويم هذه الكلمة سينصب بصورة رئيسية على صورة المفهوم التي تفتق عنها خطاب تلك الطائفة المفصحة من جيل الستينيات ، التي حاولت أن تؤسس رؤيتها الشعرية والثقافية على الأفروعربية كمشروع حضاري . وهو المشروع الذي رمزوا له بـ " الغابة والصحراء " في دلالة التصالح بين الدغل والبادية ، بين الثقافة العربية والثقافة الأفريقية في السودان .

أولا – أصول الأفروعربية

رد الشاعر د. محمد عبد الحى الأفروعربية إلى دعوة الأدب السوداني التى نادى بها الشاعر والناقد حمزه الملك طنبل وإلى مدرسة الفجر ، وهما الدعوة والمدرسة اللتان ازدهرتا في ثلاثينيات القرن (1) . وقد جاءت دعوة طمبل لتنقض المسلمات الفنية لمدرسة الاحياء الشعرى التي سادت العقدين الثاني والثالث للقـرن . فقد بدأ أن شعراء الأحياء الشعرى ، مثل العباسي والبنا ، راغبون عن اعتبار الحيز السوداني في إبداعهم ، بينما هم يطمئنون بخصوبة المصطلح الحيز العربي النموذجي ، مثل ريح الصبا النجدي ورامة والعقيق وخلافها . ولذا استحث طنبل الشعراء أن يفتنوا بالبيئة الثقافية والطبيعية السودانية حتى يقول قارئ شعرهم : إن هذا شعر سوداني حق فيه الحساسية والتضاريس السودانية (2)

ومن الجانب الآخر ، تقمّصت مدرسة الفجر دعوة ماثيو آرنولد إلى تسامى الصفوة فوق التشاحن والشتات لكى تحسن تمثيل الأمة بأسرها وليس مجموعاتها الصغيرة المغلقة (3) . فكانت دعوة الصفوة السودانية إلى الذاتية السودانية والأدب القومي ضمن البحث عن القاسم المشترك الأعظم للهجنة العربية – الأفريقية في السودان (4) . غير أن مدرسة الفجر لم تتجاوز دعوة طنبل إلى الشعراء لاعتبار الطبيعة السودانية في إنشائهم الشعرى . ولم تغادر مدرسة الفجر ذلك إلى أفريقانية من أية شاكلة . وهذا مأخذ عبد الحى عليها : " ليس في كتاباتهم ( مبدعو مدرسة الفجر ) غير طائف نظري ( حول الذاتية العربية الأفريقية للسودانيين ) لم يتنزل إلى إنجاز شعرى لتزاوج الثقافة العربية والأفريقية في صنع الذاتية السودانية " (5) . ولذا عد عبد الحى الشاعـر محمـد المهـدى مجـذوب ( 1919 – 1982 ) ، من الجيل التالي لمدرسة الفجر ، أول شاعر تلمس إمكانية تأليف شعر باللغة فيه وعى بانتماء حقيقي إلى أفريقيا (6) . وقد راجع عبد الحي قناعته السالفة في كلمة له عام 1985 (7) . وسنعود إلى ذلك في موضع لاحق من هذه الكلمة .

وتقف دعوة الأفروعربية بيولوجيا على ما روجه المؤرخون والاثنوغرافيون خلال هذا القرن من أن سكان شمال السودان هجين عربي أفريقـي ( . وقد صدرت هذه النظرية في سياق نقد أولئك المؤرخين والاثنوغرافيين لمزاعم النسّابة السودانيين من أهل الشمال في إلحاق أهلهم بنسب عربي صريح . وقد ساءهم إسقاط النسابة لاختلاط الدماء العربية والأفريقية في من عدوهم عربا أقحاحا . فهارولد ماكمايكل يصف الخليط من النوبة القارة والعرب ، ممن أقاموا على النيل من القرن التاسع إلى القرن الرابع عشر ، كهجين أفروعربي . وقد تبعتـه فـي ذلك جمهـرة العلمـاء من امـثال ج. ترمنغهـام ( 1949 ) ، ويوسف فضل حسن ( 1967 ) ، وسيد حامد حريز ( 1977 ) ، وليام آدمز (1977 ) ، وحيدر ابراهيم ( 1979 ) ، وغيرهم كثير .

ونقول استطرادا : إن دعوة الهجنة في أصولها العرقية عند ماكمايكل ، وتجلياتها الثقافية عند ترمنغها ، تنطوي على فرضية انحطاط . وهو انحطاط نجم في نظر دعاتها عن امتزاج العرب المسلمين بالنوبة الأفريقيين . فقد جاء عند ماكمايكل ما يوحي بأن الدم العربي أرفع من الدم الأفريقي . وجاء عند ترمنغهام أن الهجين العربي الأفريقي قد سرب من العقائد إلى الاسلام ما أدخله فـي الوثنيـة (9) . والواضح أن المكون الأفريقي في هذا الهجين هو أكثر من تأذى بنظرية الانحطاط هذه ، فقد رد ترمنغهام مثلا " عصبية البقارة " التي ناصروا بها المهدية إلى غلبة الدم الأفريقي فيهم " (10).

الأفروعربية هي ، بوجه من الوجوه ، رد فعل لاصطدام مبدعي جيل الستينيات بثقافة أوروبا الغالبة . فقد وقع مجاز " الغابة والصحراء " للشاعر النور عثمان وهو في محيط أوروبا الحضاري الذي " رفض هويتي الأفريقية حين أفكـر ، ورفض هويتي العربية حين أكون " (11) . فهي بهذا اكتشاف للجذور قام به هؤلاء الشعراء بعد تغرب في ثقافة أوروبا أو أروقتها . وقد عادوا من ذلك كله صفر اليدين إلا من " الحامض من رغوة الغمام " (12) . فعبد الحي يطلب من حراس مدينة سنار ( عاصمة دولة الفونج الاسلامية 1504 – 1821 ) فتح الباب للعائد من " شعاب الأرخبيل " الأوروبي (13) . و " إنسان سنار " صورة عمدة في الأفروعربية ; لأنه نتاج أول دولة اسلامية عربية فى السودان (14) . فعند بوابة سنار يستجوب ضابط الجمارك الشاعر ، فيقدم الشاعر جواز سفره السناري المتجاوز لتتحقق له الأوبة والقبول :

" – بدوى أنت
- لا
- من بلاد الزنج
- لا
أنا منكم ، تائه عاد يغنى بلسان
ويصلى بلسان ............... "

الأفرورعربية ، في نظر دعاتها ، هي عمل واع لاستعادة " الدم الأفريقي ودراسة ذلك الجانب من ميراثنا والذي أهمل لمدة وأعنى التراث الزنجـي " (15) . وهي تريد بذلك أن تتلافى قصور مدرسة الفجر التي وعدت بالذاتية السودانية ، غير أنها أهملت التراث الأفريقي. وقد قصدت هذه الاستعادة للدم الأفريقي أن تحجم بوعى انتماء السودان الشمالي إلى العروبة حتى تستقيم الأفروعربية . فكلمة النور عثمان ، التى لم أقع عليها بعد (16) . كانت " لست عربيا ولكن ... " ، وعد عبد الحى انتماءنا إلى العرب تكبرا أجوف (17) . فبينما يرى الشاعر الدبلوماسي محمد المكي إبراهيم أننا قد أنكرنا أفريقيتنا في تلهفنا ( التشديد من فعل الكاتب الراهن ) لذلك الانتماء المتكبر (1 . بناء على ذلك فليس كل تراث العرب بمقبول إلا الذي اندرج في الأفروعربية التي بدأت بـ " إنسان سنار " (19)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثانيا – الأفروعربية في أجندة تلطيف الثقافة العربية الاسلامية :

لا تهدف الأفروعربية إلى تحجيم الانتماء العربي الصريح وحسب ، بل إلى اجراء تحسين جذري في المكون العربي الاسلامي من الذاتية السودانية . فاستعادة التراث الأفريقي ، في نظر الأفروعربيين ، ليست مجرد تصحيح لمعادلة مختلة ، وإنما المقصود منها هو تهريب أجندتهم الاجتماعية والفكرية إلى الثقافة العربيـة الاسلاميـة الغبشـاء المتشـددة ( الحنبلية في قول المكي ) (20) ، بقصد حملها على التلطف والسماحة .

فمكي يرى أن الكثير من القيم الاجتماعية الحنبلية السارية دخيلة على تكويننا النفسى لأن " الدم الأفريقى يرفض التشدد " (21) . وفي إطار دعوته إلى المزيد من التمازج بين الشمال والجنوب يرحب مكى بقدوم المرأة الجنوبية الأفريقية إلى مدن الشمال التي علبت المرأة " داخل أسمك وأطول ثياب " (22) ، فنساء مدن الشمال سيجدن منافسة من أختهن الأفريقية التي اعتادت معاملة الرجل بوصفه ندا لها ، وانطبعت بالسلوك المتحرر المنطلق في كل مسارب الحياة . وأمام هذه الدفعة من التحرر " يمكننا أن نلمح على قسمات الرجل السوداني ( العربي المسلم في المدينة ) ملامح التسامح والتقدم ، والتخلص من تقاليد الكبت والرجعيـة القديمـة " (23) . فتحرر المرأة العربية المسلمة في الشمال رهين ، عند مكي ، بقوة القدوة التي ستمثلها المرأة الجنوبية الأفريقية إلى حد كبير . وأقول استطرادا : أن منطق التحرر بالقدوة قد تكرر إبّان نقاش جرى بالصحف السودانية ، حول آثار وجود أعداد متزايدة من الأثيوبيات والارتريات في العاصمة حول منتصف السبعينيات . فقد ارتأت جماعة أن ذلك الوجود سيدفع المرأة العربية السودانية إلى اقتباس آيات الزينة والتجميل الوافدة . وصفوة القول : إن إسناد التحرر إلى القدوة حجة ضعيفة جدا . والناظر في محصلة تحرر المرأة السودانية الشمالية منذ الأربعينيات سيجد أن ذلك التحرر استوعب اعتبارات اقتصادية واجتماعية وفكرية أصيلة لم تكن القدوة فيه غير تنويع فرعي .

ويأخذ مكي على الثقافة العربية مخاطبتها العقل دون الروح . وقد وسمها هذا الخطاب وحيد الجانب بالمباشرة والنفاذ والقطع كـ " ضربة السيف " . ولهذا خلت من " الفنون الراقية " مثل الرقص والنحت والتصوير . ولاكتساب هذه الفنون يشترط مكى استعادة امتلاك " الدم الأفريقي الجاري في عروقنا " . وللجنوب السوداني في هذه الاستعادة دور مرموق (24).

ومن زاوية اللغة ، يرى مكي أن احتكاك العربية باللغات الأفريقية سيؤدى إلى تغييرات في نطق أصوات العربية ، فقد تسقط منها أصوات العين والحاء . وسيكون مشروعا حيال هذا الاحتكاك التساهل في قوانين النحو " المفروض على العربي ( والذي ) يقتل لديه نهائيا إمكانية الخلق " . وقد يترتب على ذلك أن تلقى الدعوة إلى تسهيل العربية ، مثل اقتراح كتابتها باللاتينية ، قبولا أكثر في السودان لما ستتعرض له العربية من اللحن والهجنة (25).

ويحترز مكي ، وهو يتكلم عن تصوره لما سيؤول إليه الاسلام في معترك الهجنة . فقد اضطره موضوع " الدين المخيف " أن يكتب عنه بتعميم ؛ فهو يرى أن عوامل الجهل والتخلف قد مكنت لدعوات التشدد والتخويف في الاسلام ، بغض النظر عن معدنه الأصيل الداعي إلى الحب والتسامح . وقد استحال مع هذا التخويف " تلاقى البشر حول إله واحد وحب واحد " . ويرى مكى أن لقاء الاسلام بصورته الخاطئة بالعقائد الإفريقية ، ( أو ما يسميه بالوافد الأفريقي الطفل ) ، سيخلف مشاكل تحتاج إلى حلول خاصة (26) . وقد قدر أن يكون السودان بواقع الهجنة منبعا للفتاوى الجريئة وللتخفيف عن الناس وتيسير اللقاء بالله ، عبر كل الـدروب . وهذا ، في معنى قوله ، أن يلعب السودان دورا قائدا في التسامح والاحياء في مجال الديانات (27).

وينعى مكى وقار وجد وتزمت الحضارة العربية ، في حين يرى الخفة في الأفريقيين . ووقار السودانى العربى المسلم يتجلى في قول مكى في بطء الحركة وثباتها حتى إذا حاصرته السيارات وهو يقطع الطريق ، وهو تلكؤ اشتكى منه الأوروبيون الذين قادوا سياراتهم في السودان (2 . وسأضطر إلى الاستعانة ، هنا ، بمقتطف طويل من مكي بشأن وقار العربى وخفة الأفريقى ، لكى أعطى القارئ فكرة أفضل عن مقابلات مكي بين العروبية والأفريقية وعن منهجه في كيمياء التلاقح المنشود بينهمـا . لا ننكر أن المشى جزء من مفهوم الشخص في الثقافة ، ولكن سيقف القارئ في المقتطف على صورة الأفريقى عند مكى ، التى هى بالأساس نعرة عربية . يقول مكي :

" والانسان السوداني العربى الثقافة إنسان جاد . وهو بالفعل إنسان مفتوح القلب لكن يرفض أنواعا شتى من الهزل ؛ يرفض أن تشتمه مداعبا ويرفض النكتة العملية ، بعكس الانسان العربى في مصر والشام ... ومن الجانب الآخر نجد الدم الأفريقى خاليا ( أي الجد والوقار ) تماما ، بل بصورة مستحبة . الأفريقى ملئ بالحركة بحيث لا يهمه أن عبر الشارع قفزا أو ركضا أو يرقص فيه ، وهو في ضحكه معتمد على النكتة العملية على الأقل بصفتها أكثر بدائية من النكتة المحكية . وهذا الانسان الضاحك الخفيف خليق بأن يؤثر على المزاج العربى غير المتلائم ومتطلبات الحياة الحديثة ، بحيث يتخلى عن هذا الوقار الجاد في تصرفاته المتزمتة ، وبحيث تكتسب الخفة الأفريقية اتزانا يعصمها من الفوضى " .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثالثا – البدائى النبيل وتأرجح الثقافات :

سافر محمد المكى إبراهيم وزميله الشاعر النور عثمان في رحلة إلى ألمانيا الغربية لقضاء عطلة صيف 1962 ضيفين على جمعية الصداقة الألمانية السودانية الناشئة . وقد أملت البوهيمية والشغف بالترحال على مكي أن يمد إقامته في ألمانيا إلى عام تغيب فيه عن الجامعة ، وعاد بشعر صاف عذب يرويه الجيل بعد الجيل من ديوانه " أمتي " . وقد قال مكي عن رحلته هذه عام 1963 : إنها كانت " تحالفا بين هاربين " لم يتركوا في وطنهم حبا يشتاقون إليه فلاذوا بالهرب مغادرين السجن المفروض عليهم ، وعليه لم يكن بين دوافعهم " فهم أو تعاطف يصلح لحب عميق " (30) .
في فرار الأفروعربيين إلى النسبة الأفريقية تشابه مع رحلة مكي البائسة . فدعاة الأفروعربية لم يلقوا ، وهم في ريعان الشباب ، من ثقافتهم العربية الاسلامية ما يروي غلتهم من الحب والتعبير . فاضطروا إلى الهرب بأجندة الريعان والشغف إلى فردوس أفريقي مطموس في تكوينهم الاثني ، الغرائز فيه طليقة ، والرغائب مستجابة . ولأن رحلتهم لم تقم على فهم وتعاطف مع " سجن " الثقافة العربية الاسلامية الذي هربوا منه ، أو معرفة بالثقافة الأفريقية التي هربوا إليها ، لذا فقد كان حصادها مؤسفا . فقد ترك الأفروعربيون الانطباع الخاطئ بأن تزمت الثقافة العربية الاسلامية لا ينصلح إلا بعملية نقل دم من حضارة أخرى أكثر تسامحا في إرواء الأشواق والغرائز . ولذا بدأ جفاء الثقافة العربية عندهم خصيصة بيولوجية وليس خصلة اجتماعية قائمة في التاريخ العياني .

ومن الجانب الآخر أساء الأفروعربيون إلى أفريقانيتهم ، من حيث أرادوا تعزيزها وتكريمها . فقد اصطنعوا في صلف سخطهم وبوهيميتهم الكظيمة أفريقيا وهميا لحمته وسداه معطيات أوربية عربية مردودة عن أفريقيا مثل الطفولة والغرارة والمشاعيّة والروحانية وخفة القلب والولع بالإيقاع والرقص . والأفريقي المخترع هذا هو الذي جرى وصفه دائما بـ " البدائي النبيل " في علم الأثنوغرافيا . وقد لا نستغرب حصاد الأفروعربية البائس من مشروع لم يجمع الهاربون فيه حبا عميقا أو معرفة دقيقة بأي من الأمكنة : لا تلك التي هربوا منها ولا تلك التي هربوا إليها .

جاء عبد الحي بمصطلح " البدائي النبيل " إلى حلبة نقاش العلاقات الثقافية في كلمته القيمة المشار إليها آنفا (31). فقد خلص عبد الحي من دراسة القصائد التي اشتهرت بـ " الجنوبيات " ، من شعر الشاعر المجذوب – عليه رحمة الله – إلى أنها قد صورت الجنوبي في صورة وهمية هي صورة " البدائي النبيل " . و " الجنوبيات " هي نسل مجرد من شعر المجذوب وقعت له حين جرى نقله من بورتسودان ( على ساحل البحر الأحمر ) إلى واو ( في جنوب السودان ) في أوائل 1954 ، والتي أقام فيها حتى قبيل حوادث الجنوب المشهورة في آب / اغسطس 1955 .

وقد اعتقد الأفروعربيون أن " الجنوبيات " هي باكورة لنوع الشعر السوداني الذي يريدون له الذيوع . فقد رأينا عبد الحي يصف المجذوب في كلمته عام 1976 بأنه الشاعر السوداني الذى أدرك حقيقة انتسابه إلى أرومّة زنجية . وأضاف عبد الحي بأن شعر المجذوب إنما يعكس في جنوبياته وغيرها وحدة على مستوى عمق مصادر التقليدين العربي الأفريقي (32) . وقال مكى في المعنى نفسه أيضا : إن المجذوب في جنوبياته قد جعل ذاته الشاعرة معلما على سودان الغابة والصحراء . ورأى في شعره استيعابا وتصويرا وتمثيلا لتجربتنا الحضارية ، مؤصلا في معرفة بثقافة الشمال العربية وثقافة الجنوب الأفريقية (33) . وهكذا عمد الأفروعربيون المجذوب ، الذى هو في سن آبائهم ، أبا روحيا لمشروعهم الشعرى الرامي إلى التعبير عن الوحدة العميقة للوجودين العربي والأفريقي ، في ذاتية سودانية صمدة .

رد عبد الحي في كلمته الأخيرة ( 1985 ) جنوبيات المجذوب إلى تأرجح الشاعر (34) بين ثقافة العرب وثقافة الأفارقة ، لا إلى وحدتهما في عمق المصادر كما فعل في كلمته عام 1967 ، كما رأينا أعلاه . فجنوبيات المجذوب عند عبد الحي قائمة في ثنائية الحضارة ، التي تمثلها ثقافة الشمال العربية ، والطبيعية ، التي تمثلها ثقافة أهل الجنوب (35) . وهي ثنائية يتعارض فيها العرف مع الملابس ، البراءة مع العار ، والقلب مع العقل ، والأريحية مع النقود ، والطلاقة مع الأخلاق ، والمشاعة مع النسب . وعند عتبة مجتمع الطبيعة الجنوبي البكر العذوبة ، خلع الشاعر عباءة الحضارة العربية بمحرماتها ونواهيها الكاسية . فالمجذوب يشبه تحالف الأفروعربيين في يأسه من إصلاح الثقافة العربية الاسلامية من باطنها ، واصطناعه بدائيا نبيلا في الجنوب يصوب به ذهنيا علل وآفات تلك الثقافة . لقد تمنى المجذوب :

وليتنى في الزنوج ولى رباب تميد به خطاي وتســــتقيم
وأجتزع المريسة في الحواني وأهــدر لا الأم ولا ألــوم
وأصرع في الطريق وفي عيوني ضباب السكر والطرب الغشوم
طليق لا تقيدني قريـــش بأحساب الكرام ولا تنيـــم

غير أن هذا البدائي النبيل صورة وهمية كما يقول عبد الحى (36) . فالبوهيمية الاجتماعية (37) التي رآها الشاعر في الجنوب إنما هي إسقاط من شاعريته النهمة التي قيدتها الزواجر الاجتماعية في الثقافة العربية الاسلامية . فهذه الاسقاطات هي عبارة عن شهوات للشاعر لم ينقع مجتمعه غلتها فأرغت وأزبدت عالما من البوهيمية .

إن صورة الجنوبي كبدائي نبيل لا تصمد أمام الصورة الاثنوغرافية التي رأيناها عند إيفانز برتشارد وليتهاردت وغيرهما ، والتي فيها الجنوبي أيضا إنسان مشدود بين الثقافة والطبيعة ، وهى الثنائية التي لا مهرب لبشرى من مجابهتها . وهى لم تصمد بالفعل للجنوبي الواقعي الذى ارتكب أنواعا من القتل المجاني ضد طائفة من موظفي الدولة الشماليين في حوادث 1955 (3) . وقد اضطر المجذوب إلى أن يسقط حقائق اجتماعية جنوبية كثيرة لكي يخلص له " إنسان الجنوب البسيط الضاحك المتفاعل " (39) . فقد لاحظ مكي مثلا إغفال المجذوب ذكر السياسيين من مثقفي الجنوب الذين ، " كان يمكن أن يكونوا صيدا نموذجيا لهجائه الساخر وتصويره المضحك الدقيق " (40) . فقد أراد المجذوب أن يختصر طريقه إلى البراءة والسلاسة الجنوبية اختصارا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابعا – الأفروعربية وجه آخر من وجوه الخطاب العربي – الاسلامي الغالب :

تتجاوز الأفروعربية أن تكون صورة أخرى من صور الخطاب العربي الاسلامي الغالب في السودان ، على ما ييبدو عليها من سيماء النصفة للمكون الأفريقي في ثقافة شمال السودان. فهي تتفق مع أكثر قسمات ذلك الخطاب محافظة وتبشيرية ، وهى نظرية السودان البوتقة التي تنصهر فيها كل المفردات الثقافية في ثقافة جامعة ما .

ويختلف خطابا غلاة الاسلاميين والأفروعربيين في منتوج التمـازج . فالتمازج القومي في نظر الغلاة سينتهى بشكل مؤكد إلى تبنى الجماعة الجنوبية الاسلام والعربية لأنهما مميزان علويان مقابلة بملل الوثنية ورطانات العجم . فالتمازج في أفق الغلاة هو معسكر دعوة كبير لتغيير الملل واللسان .

أمل الأفروعربيين في تمازج الثقافات في السودان معلّق بحركة التصنيع بوسعها أن تزيل البقية الباقية من العوائق بيـن الجنـوب والشمـال (41) . ولسداد الامتزاج يحتاج أهل الجنوب إلى تقوية تأثراتهم بالعربيـة (42) . وعليه يكون ناتج الامتزاج بين الجنوب والشمال لإعادة إنتاج لإنسان سنار ، الذي هو أساس التركيبة الهجينة للسودانيين الشمالييـن . فمحصلة الامتزاج بين الجنوب والشمال في نظر الأفروعربيين ستكون بمثابة طبعة لاحقة للسوداني الشمالي الذي لا عيب فيه حاليا سوى تجاهله لتراثه الأفريقي . وهذا التراث هو الذي يرمي الأفروعربيون إلى استعادته لكي يستقيم السوداني الشمالي بين دفتي تراثه المزدوج . فالأفروعربية تجعل إذا من السوداني الشمالي نتاجا للتاريخ الصواب في السودان ، ومنتوجا لن نخطئه كلما اتسعت وتائر التمازج بين الجنوب والشمال .

خامسا – محنة الأفروعربيين في الاستقطاب الثقافي :

الأفروعربية دعوة إلى الوسيطة السعيدة . ولذا أعادت فرز وترتيب رموز الثقافة السودانية لكي تصح قراءة تلك الثقافة في توازن الوسطية المفيد بين العرب الخلص والأفارقة الخلص (43) . ومع ذلك لم تسعد الأفروعربية أحدا ، فهي لم ترق للجنوبيين . نشرت جريدة ( الفجلنت Vigilant ) الانجليزية) بتاريخ 14/7/1965 قصيدة بعنوان " الوحدة المغلفة بالسكر " لشاعر من أهل جنوب السودان يستنكر فيها دعوة الأفروعربية .

قال الشاعر :

تفترض الوحدة وجود فريقين
الفريقين اللذين يتفقان على التآزر
فمن غير المنظور في الوحدة أن تقوم على أشلاء آلاف الضحايا
ولا على فوهات جيش منفلت مأمور أن يستأصل شأفة ( الجنوبيين)

ويمضي المقطع ليشير إلى " خطيئة العرب " وهى هجرهم التمثيل المناسب للجنوبيين في أجهزة ، بعد مؤتمر المائدة المستديرة الذي انعقد عام 1965 للمصالحة بين الجنوب والشمال .
قال الشاعر :

غير أن الطبيعة نفسها تأبى
أن تتخذ الصحراء والسافنا ( الغابة)

غير أنهم ابتذلوا عدل الطبيعة ، حين ظنوا أن بإمكانهم توحيدها بمحض القوة .

فقد تلزم الجنوبيين ضرورات التساكن القومي إلى اكتساب اللغة العربية أو عادة عربية إسلامية . غير أنهم سيقاومون كل ميل لجعلهم يتبنون النسبة العربية المقترحة من قبل الأفروعربيين إلى جانب نسبتهم الأفريقية المؤكدة . وستبدو لهم الدعوة إلى إعادة إنتاجهم ، عبر التمازج الثقافي كطبعة لاحقة لإنسان سنار ، نوعا من الغش الثقافي لا الحوار . فالجنوبيون محاذيرهم كثيرة ، الصادق منها والمخترع ، حيال عرب الشمال . وهذه المحاذير واضحة في دلالات الازدراء والمقت التي تجرى بها كلمة عربي على ألسنتهم . بل إن بعضهم لايزال يحدس أن أفضل المخارج لمسألة السودان أن يحزم عربه حقائبهم ويقطعوا البحر الأحمـر . وهذا اعتقاد بعيد بما لا يقارن مع النسبة الجزئية إلى العرب التي تقدمها لهم الأفروعربية .

من الجانب الآخر ، جردت التوفيقية الطوباوية الأفروعربيين الليبراليين من كل مصداقية . ولذا يبدون في استقطاب الثقافات الجاري في بلدنا خلوا من كل قوة تفاوضية . فحيلهم التوسط بالهجنة مردودة . فقد جاء في الاحتجاج عند منصور خالد في حلقة تناولت مسألة جنوب السودان بما يلي :

" إن تعريب وأسلمة شمال السودان قد تمت بالتدريج عبر فترة طويلة من الزمن وفي إطار تلاقح ثقافى سلمى . وهو التلاقح الذى بلغ الغاية حتى إن أولئك الذين يبحثون تفردهم في أى من العروبة والاسلام إنما يحرثـون فـي البحـر " (44).

وقال عبد الله النعيم في الحلقة الدراسية نفسها ، وفي المعنى نفسه ما يلى :

" المحاولات الجارية للتشديد على هوية إسلامية أو عربية خالصة مزعومة لأي من أقاليم السودان هي محاولة مضللة وسلبية في آن معا " (45)

وفي الكلمتين تفاوض واضح بالأفروعربية قد لا أتفاءل بحظه من القبول لأطراف الاستقطاب في المسألة الثقافية السودانية .

وعندي إجمالا أن خلع أو تحجيم الهوية أو الثقافة العربية هو إما غش ثقافي أو يأس . فالطريق فيما أرى إلى اطمئنان الجنوبيين وغيرهم من حملة الثقافة الأفريقية إلى أمنهم الثقافي ، يمر عبر تصدى العرب المسلمين للنعرات وأنواع التحريم التي تغص بها ثقافاتهم تصديا بالأصالة عن أنفسهم ، لا نيابة عن أحد . ويستلزم ذلك وقفة مستنيرة إزاء الذات وقدرة على تحري النقد ، وتحمل تبعاته . ولا أحسب أن حملة الثقافة الأفريقية ممن يرغب في الزج بهم كلاعبين رئيسيين في أجندة تفتح وديمقراطية الثقافة العربية الاسلامية . فالأصح في نظري مثلا أن يدعو من يزعم أن تعاطي الخمر حرية شخصية إلى كامل حرياته الشخصية كعربي مسلم ، لا أن يتخفى وراء نسبته في أفريقيا التي الخمر فيها بعض الماء أو الغذاء أو أنخاب الطقوس . والأهم من ذلك كله ألا يتأسى العربي المسلم لفقدان الجنوبي حريته في شرب الخمر ، قبل أن يتأسى هو لفقدانه الحق ذاته . فحملة الثقافة الأفريقية قد يرغبون أن يروا العرب المسلمين في السودان متمتعين بحقوقهم في الاعتقاد والرأي وأنواع الشغف الأخرى أولا ، قبل أن يصدقوا مشروع الأفروعربيين الحضاري.

ومن الجانب الآخر فخطة الأفروعربيين لاستخدام المكون الأفريقي فيهم وحقوق الجنوبيين لنصرة آراء لهم في الحياة السياسية والاجتماعية هي خطة مكشوفة للغلاة من الدعاة الاسلاميين . فهم يرون الليبراليين من الأفروعربيين إنما يدسون مشروعهم العلماني وراء تظلمات الجماعات الأفريقية غير المسلمة . وهذه الخطة الأفروعربية في نظر الغلاة مجرد حيلة في علم الحيل . فقد قال الشيخ الترابي ، " إن مناصري العلمانية منافقون مارقون من بين صفـوف المسلمـين لا يستطيعون الجهر بمعارضتهم للإسلام ، بل يتصنعون الغيرة على حقوق المواطن السويّة ، وأنهم بحماية الأقلية غير المسلمة في الجنوب يريدون أن يلقنوا تلك الأقلية لتعبر عن أهوائهم التي لا يستطيعون أن يفصحوا عنها " (64) . وهكذا لم يقض للأفروعربية الموسومة بالوسطية أن تسعد أحدا ؛ وهذا باب في الاخفاق كبير .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خاتمــة

صفوة القول : إن الأفروعربية هي صورة أخرى من صور الخطاب العربي الاسلامي الغالب في السودان . وهى كخطاب غالب تنهض على محوريـن : المحور الأول ، هو تمييز " إنسان سنار " – نواة السودان الشمالي – عما عداه من أناس في الوطن . ولذا تنظر الأفروعربية إلى الحركة التاريخية في السودان كحركة مستمرة صائبة من التمازج بين العرب والأفارقة ، بين الشماليين والجنوبيين ، لإصدارات متكررة من ذلك الانسان ؛ أما المحور الثاني فهو تشويه الأفروعربية لموضوع خطابها وهو الأفريقي . ففي تنقيبها عن الأفريقى المطموس السوداني الشمالي انتهت الأفروعربية إلى اختراعه كبدائي نبيل . وككل بدائي نبيل ، صدر الأفريقيي من حوار الأفروعربية مصنوعا من محض معطيات ومسبقات وتكهنات وتشهيّات لا أصل لها في واقع الحال .

لقد أرادت الأفروعربية ، باستردادها المكون الأفريقي في العربي السوداني المسلم ، أن تضرب عصفورين بحجر واحد ، أن تدس خلال ذلك مشروعا خاصا بها في تفكيك محرمات الحضارة العربية الاسلامية التي سدت على يفاعتهم منافذ الاشباع . أما الأمر الثاني فهو تطمين الجنوبي إلى أمنه الثقافي في أروقة مفهومها للتمازج ، الذي للأفريقية فيه مكان ، على خلاف نموذج الغلاة من الاسلاميين والعروبيين .

من الواضح أن برنامج الاصلاح الأفروعربي للثقافة العربية الاسلامية لم يحالفه التوفيق . وواضح كذلك أن الجنوبيين لم يطمئنوا إلى وعده أو شروطه في قدر من التعريب والأسلمة . وهذه بعض دلالات الاستقطاب الثقافي المتفجر في السودان .

إن أفضل الطرق عندي أن يكف أبناء الشمال العربي المسلم عن خلع بعض حضارتهم بدعوى الهجنة . فأوفى الضمانات للأفريقيين في الوطن هي يوم يرونهم قد وطّنوا حرياتهم كعرب ومسلمين في باطن ثقافاتهم . فالاحتجاج بحقوق الأفريقيين المعاصرين أو ممن يزعم الأفروعربيون أن دماءهم ، كأسلاف ، قد استقرت فينا هو خطة سلبية جدا . فأهدى السبل إلى السلام والنهضة الثقافية في السودان هو الاقرار بقوامين ( أو أكثر ) للثقافة السودانية . قد تمتزج هذه القوامات وقد تتبادل التأثير والتأثر ، مع احتفاظ كل منها باستقلال الدينامية من حيث المصادر والترميز والتوق .


الهوامش

(1) أنظر محمد عبد الحي ، الصراع والهويــــــة ( ] د.م.د.ن [ ، 1976 ) ، ص 6-29 ( بالانجليزية).
(2) المصدر نفسه . ص 8-9 .
(3) المصدر نفسه . ص 19-20 .
(4) المصدر نفسه . ص 12-13 .
(5) المصدر نفسه . ص 23 .
(6) المصدر نفسه . ص27 .
(7) أنظر : محمد عبد الحي ، " مفهوم الزنج في الشعر العربي في السودان " ورقة قدمت إلى : جامعة الخرطوم ، معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية ، مؤتمر القومية السودانية في ضوء التعدد العرقي والتنوع الثقافي ، الخرطوم ، 26 –28 تشرين الثاني / نوفمبر 1985.
( عبد الحي ، الصراع والهوية ، ص 2-5 .
(9) ج. ترمنغهام ، الاسلام في السودان ( ] د.م.د.ن.[ ، 1949 ) ، ص149 .
(10) المصدر نفسه ، ص 30 .
(11) " حوار مع النور عثمان " الأيام ، 24/3/1979 .
(12) أنظر : محمد عبد الحي ، قصيدة " العودة إلى سنار " .
(13) المصدر نفسه .
(14) كتب محمد عبد الحي إن تاريخ الثقافة السودانية يبدأ بقيام ممالك التلاقح الاسلامية العربية الأفريقية ، ومن بينها دولة الفونج بسنار . ففترة قيام تلك الممالك عنده ( هي التي بدأت في إنتاج ثقافة سودانية – وأعني بكلمة ثقافة كل طرائق حياة مجموعة ما – لقد امتزج العنصران الأفريقي والعربي وكونا عنصرا ( أفروعربيا ) جديدا ليس بعربي ولا زنجي ... إنه نتاج لقاح هذين العنصرين ) . أنظر : محمد عبد الحي ، " نحو ثقافة أفروعربية " الرأي العـام ، 24/12/1963.
(15) المصدر نفسه .
(16) وهى الكلمة التي رد عليها صلاح أحمد ابراهيم في : الصحافة ، 25/10/1967 ، واتهم النور بالطعن في العروبة .
(17) عبد الحي ، " نحو ثقافة أفروعربية " .
(1 محمد المكي إبراهيم ، " المستقبل الحضاري في السودان " الرأي العام ، 13/12/1963.
(19) عبد الحي ، المصدر نفسه .
(20) إبراهيم ، " المستقبل الحضاري في السودان " الرأى العام ، 15/12/1963.
(21) المصدر نفسه ، في : الرأي العام ، 8/12/1963.
(22) المصدر نفسه ، في : الرأي العالم ، 15/12/1963.
(23) المصدر نفسه .
(24) المصدر نفسه ، في : الرأي العام ، 13/12/1963.
(25) المصدر نفسه ، في : الرأي العام ، 15/12/1963.
(26) المصدر نفسه .
(27) المصدر نفسه .
(2 المصدر نفسه .
(29) المصدر نفسه .
(30) المصدر نفسه ، في : الرأي العام ، 8/12/1963.
(31) عبد الحي ، " مفهوم الزنج في الشعر العربي في السودان " .
(32) عبد الحي ، الصراع والهوية ، ص 27 .
(33) محمد المكي إبراهيم ، " الجنوب في شعر المجذوب " مجلة الاذاعة والتليفزيون والمسرح ، العدد 36 ( 7 تشرين الأول / اكتوبر 1976 ).
(34) عبد الحي ، " مفهوم الزنج في الشعر العربي في السودان " ، ص 12 .
(35) المصدر نفسه ، ص 10 .
(36) المصدر نفسه ، ص 12 .
(37) إبراهيم " الجنوب " مجلة الاذاعة والتليفزيون والمسرح ، العدد 36 ( 7 تشرين الأول / اكتوبر 1976 )
(3 أنظر : تقرير لجنة التحقيق في تلك الحوادث .
(39) إبراهيم ، المصدر نفسه .
(40) المصدر نفسه .
(41) عبد الحي ، " نحو ثقافة أفروعربية " .
(42) إبراهيم ، " المستقبل الحضاري في السودان " الرأي العام ، 13/12/1963 .
(43) سيد حامد حريز ، " المقومات الثقافية للقومية السودانية " الصحافة ، 2/12/1968 .
(44) من كلمة له في حلقة دراسية انعقدت في امريكا في عام 1987 حول مسألة جنوب السـودان .
(45) من كلمة له في الحلقة الدراسية نفسها .
(46) من محاضرة له عن تطبيق الشريعة الاسلامية في السودان .


http://www.sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=233&msg=1188365209&page=2&pb=
**

imported_عبدالله الشقليني
14-05-2020, 12:33 PM
تعدّ الورقة رؤية لصاحبها واضحة الدلالة، في أنه يرفض أن ينتمي أصحاب الغابة والصحراء، لإنجاح رؤيتهم في الابتعاد عن المسلك الإسلامي المتشدد بقبولهم مسلك الإنسان الجنوبي.
وهي ضد التوجه في الإسلام الصوفي في السودان قبول المجتمع لاجتماع نقيضين : المسجد والانداية . وقبول غير مشروط بالمصلي السكير . وتدعو قبول المجتمع بالإسلام الشعبي .
كان لمحمد المهدي المجذوب دورا عند انتقاله موظفا بجنوب السودان ، أن ينفلت كشاعر من قيود المجتمع المحافظ.
وعندما يُفهم واقعية الرؤى الدينية وسقوط المقدس أنه من صنع الإنسان ، سوف تُحل القضية .

imported_عبدالله الشقليني
14-05-2020, 12:36 PM
https://www.youtube.com/watch?v=2DZg4EkgUg4

imported_عبدالله الشقليني
14-05-2020, 12:40 PM
https://www.youtube.com/watch?v=zc28zcQqEhE

imported_عبدالله الشقليني
14-05-2020, 12:41 PM
https://www.youtube.com/watch?v=k0dMHkOLQd8&t=53s

imported_عبدالله الشقليني
14-05-2020, 12:42 PM
https://www.youtube.com/watch?v=2UwFE1LEtUI

imported_عبدالله الشقليني
14-05-2020, 01:42 PM
يعتقد أن الشاعر محمد المهدي المجذوب هو الأب الروحي لمدرسة الغابة والصحراء الشعري . ويصح أن نطلق عليه أنه أكبر سنا من الشعراء : محمد المكي إبراهيم والنور عثمان أبكر ومحمد عبد الحي . وقد زار مدن في الجنوب كان قد نُقل اليها عندما كان موظفا حكوميا.

imported_عبدالله الشقليني
14-05-2020, 01:44 PM
مقدمة الشاعر محمد المهدي المجذوب لديوان نار المجاذيب

رأيت طفولتي الباكرة على ضوء هذه النار المباركة ، ونظرت إليها وسمعت حديثها ، وعَلِمْتُ وانتشيت وغنيت .أوقدها الحاج " عيسى ود قِنديل " والسودان في مُلك " العَنَجِ النصارى من أهليه ، فتلفتتُ في ليل " دَرُّو" الساكن، وتُلقي ذوائبها الذهبية على الحَيران ، تحلقوا حولها وعانقوا الألواح ورتّلوا القرآن ، وسهر من حولها الفرسان والفقهاء وأصحاب الخوارق ، يسبّحون وينشدون ، سماحة بين الناس وأمناً وأريحية ، قروناً طوالاً حتى الساعة .

ودفع بي أبي إلى هذه النار فرأيتُ وجه شيخي وسيدي ، شيخ الفقراء الورع الحافظ ، الفقيه محمد ود الطاهر .
وأني هو الشاعر المعلم ، الحافظ العلامة الفذُ العابد ، الشيخ محمد المجذوب ، بن الفقيه محمد ، بن الفقيه أحمد بن الفقيه جلال الدين ، بن الفقيه عبد الله النَّقَرْ ، بن طيِّب النِيَّة الشاذلي ، الفقيه حمد ، بن الفارس الفقيه المجذوب ، بن علي البَكَّاء من خشية الله ، بن حمد ضمين الدامر ، بن عبد الله المشهور برجل " دَرُّو" ، بن محمد ، بن الحاج عيسى وَد قنديل بن حمد بن عبد العال بن عرمان والإجماع قائم على أن شاع الدين وعبد العال ابني عرمان أمهما من نسل البضعة الشريفة ، وأَعَدُّ نسبي في الجعليين من عرب السودان حتى العباس بن عبد المطلب، والحمد لله على ذلك ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه .

وخرجتُ من الحيران إلى "الفَزَعَة "لنحتطب ، وفي قبضتي الصغيرة فَرَّار وماء من بحر النيل في زجاجة خضراء ، وتغوص أقدامنا في كثبان الرمال السمر ، وتتعلق أعيننا بزرقة النيل ورؤوس الدوم والنخيل ، ونُريح طفولتنا عند السدر الظليل ، ونعود إلى النار وبالعُشَرِ ، والسَّلَمِ وتطعمنا النار ،مغربِ كل أربعاء كَرَامةً من " بليلةِ اللوبياء المبارك ، وعَيش الريفِ الحلال .

ومن ليل "الدامر" الساكن الهامس بالنجوم .ومن مدائح الولي الكامل جليس الرسول محمد المجذوب ووَجْدِه الصادِح في ضوء النار الساهر .
ومن فرحي الغامر بصحبتي لقسيم الصبا والأحلام والشباب ، الشاعر الفذ الفنان عمي وأخي وسيدي ابى البركات عبد الله بن سيدي الوالد ، الشاعر الحافظ المعلم الشيخ الطيب ، عليه رحمة الله ورضوانه .
ومن لالاء نوّار اللُّوبيا ، في جرف السيدة " صَافي النيّة " رضوان الله عليها ورحمته ، ومن رقتها وحنانها العميق ،
ومن سِيَر التاريخ الحافل بالمآثر أَخذاً عن جدتي الحافظة ، المعلمة الذاكرة ، السيدة الحاجة مريم بنت الولي الصالح الحاج "عطوة "المغربي" الخفاجي "، والسيدة البرّة الكريمة ، أم الأضياف البرّة الوّهابة ، بنت وهب بنت النقر ، رضوان الله عليهما ورحمته وبركاته ،
ومن طبول المُقَدَّم القادري تلميذ الشيخ الجعلي " دياب " رضوان الله عليهم ، ومن الصدق الذي علمنيه والداي العاطفان ..ومن كل ما ذكرت ـ في محبة ووفاء وعرفان ، انعقد جوهر هذا الشعر .
سادتي القراء
معاذ الله أن أفخر وأنا من تراب ... ولقد علم العلام أنني ما أردت، بالذي ذكرت ، إلا إقرارا بعجزي وشكري .
وانتقلت بعد الخلوة القرآنية في " الدَّامَر إلى مدارس الحكومة في الخرطوم ، وحتى تخرجت من كلية غردون ، ولم ألق بالاً بوعي كامل إلى هذه المدارس ، ولم أمنع نفسي من شرورها وقشورها ، وما زلت أعاني من أمورها .وجدتُ عند أبي قراءة حافلة ودرساً متصلاً ، ثم اخترت ...ولقد أفدتُ كثيراً من مخالطة الناس خصوصاً المساكين فلديهم صدق أخاذ نفعني وشفاني .

أعمل حاسباً في حكومة السودان ، وقد تنقلت في بلادي بحكم وظيفتي من أقصى الشرق وإلى أقصى الجنوب إلى أقصى الغرب مع نشأتي في الشمال . وقد سمعت ورأيت وجربتُ كثيراً ، حزناً وسروراً ، وكنتُ أصنع هذا الشعر على أحوال مختلفات ...
ولقد علمت بعد المعالجة والتجربة أن الشِعر أصعب الفنون ، ولم تؤهلني طاقتي إلى بلوغ الغاية فيه .. وقد آذاني الشِعر .. فقد رسخ في أذهان الناس هنا أن الشاعر من كوكبٍ آخر .. فهو لا يأكل الطعام ولا يسعى في الأسواق .

وأذكر أول التحاقي بالوظيفة ، أن رئيسي في الديوان ، رآني أختلس النظر إلى ديوان العقاد ، وكنتُ خبأته في احد أدراجي .وأصلح الرجل الطيب شاربه الملكي ، وامتلأ بوظيفته ، ونظر وعبس وبسر ، وقال في إشفاق واستخفاف : الشِعر ؟ " يا بني الشعر ما يِسْقِنيش مَيَّه "- وأعترف هنا أنني لم انتفع بنصيحة قط ، وما انتهت نفسي عن غيها ، وليس لها من زاجر .وتذكرت نُصح الرجل الطيب .. فقد حسبني مداحاً .. وهو قد فطن إلى ضعف الشاعر في هذا الزمان ، وأكثر القوم في الشرق العربي ينظرون إلي شخصه لا عمله .

ولقد كان الشاعر في السودان مذبوحاً ..دمه من المُشهِّيات ومما اتُّفقَ عليه – ولا نعرف فظاعة القسوة التي فيه ، وأن الألم يعين على الإبداع ، ولا يقول هذا من يعرف القلوب ، فالألم يعين على الإبداع ، ولا يقول هذا من يعرف القلوب ، فالألم إذا إذا جاوز الطاقة – مثل الفقر- يفحم ويقتل المواهب ويعمي البصيرة والبصر.ولقد علمت أن الشعر كسائر الفنون لا يُشْرك به .. ولم أتمكن من الجمع بين الواقع الذي أعيش فيه والشعر ، ثم غلب على ابتغاء الجر في طلب العيش ، فأعطيت وظيفتي ، وهي حق لا ريب فيه كل وقتي وتفكيري وطاقتي " وأسلم في هذا الموضع ، بكل احترام ، على من بيدهم أمر العلاوات والترقيات من رؤسائي في خدمة الدولة " .

أنا أحب الفرح – متفائل بطبعي ، لأنني أحب الخير لنفسي وللناس ، وبهذا تعتدل الحياة ، ولكن الله جلّت حكمته ابتلائي وأعانني ، وله الحمد ، فاحتملت ، وأعياني حبي للصفاء فاعتزلت ، وأحاسب نفسي ، وأتهم صدقي وأتعب وأوسوس وأتشاءم ، وعلمت – غير نادم – أن التطرف في الحب والولاء لا يؤذي إلا صاحبه ، والنفوس شِحاح ، والأنصاف على الصفاء هو الإكسير – والإكسير خرافه – وشجرة الإكسير كانت على الذروة من جبل كسلا – وليس غيرها في الدنيا ، قيل صعد إليها رجل فاقتلعها .. أين الرجل ؟ ، ولكني لن أسأم من طلب الخير لنفسي ولغيري .. وأؤمن بالقضاء والقدر وهذا باب طويل .

ليس لي مذهب شعري ، فقد حاولت التعبير عن نفسي بصدق ، ولم التفت إلى مذهب نقدي ، ولم أجعل اللغة غاية ، وأخشاها ، وأشتهي الخروج على قوانينها الصارمة ، ولا أعرف تقطيع البيت على التفاعيل ، وما زلت أتعجب ممن يطبق هذه التراكيب واشهدُ له بالبراعة . هذا وما كنتُ أعدّ نفسي من الشعراء ، فقد اشتهيت أن أكون رساماً ولم أفلِح.
مشايخي في الشِعر ؟
لا أول لهم ولا آخر ، من العرب ومن الأعاجم الفصحاء ، قُدّامي ومحدثين رجالاً ونساء .. وأنا لهم مَدين .
أنا إنسان حسن الحظ جدا ، فقد كتب الله لي السعادة حين عطَّف عليَّ قلوب أفراد من النساء والرجال ، داخل السودان وخارجه ، تولوني بالتشجيع وأذاعوا ما استجادوا من هذا الشعر ، ولما كنت أجد سروراً في الاعتراف بالفضل ، فقد كنت أحب أن أزين هذا الديوان بذكر أسماء هؤلاء الأحباب ، وترديد أسماءهم يعدل عندي رنين قصيدة .
والعاطفون عليّ يعرفون شكري ووفائي وسعادتي بشكرهم وذكرهم ، وقلوبهم تحدثهم عني ، وكنت أحب لو نشرت أسماءهم ولكنها ديوان وحده.
وبعد أيها القارئ الكريم ..
هذا شعري بين يديك ، وأرجو أن ينفعني صدقي لديك ، وأحب أن نلتقي في ديوان آخر ولك شكري .

محمد المهدي المجذوب

imported_عبدالله الشقليني
14-05-2020, 02:02 PM
أرى مدرسة الغابة والصحراء، تكشف توق الشعراء للوحدة الوجدانية بين العلاقة بين المعتقدات الثقافية العربية والأفريقية، في تواد دون تنافر. وهي غير التي يراها بروفيسور عبدالله من أنها رؤى تتدثر بالثقافة الإفريقية لتبيح للمعتقدين بها إلى الهرب من الثقافة الإسلامية المحافظة . ويراها عقيدة بائسة ، كان لها أن تواجه الثقافة المحافظة ،لا أن تتستر بثقافة إفريقيا.
وقد فجرت الدراسة قدرا من الاندياح الثقافي ، مما ترتب عليه كما من الكتب والأشعار. وأدى لاحقا تنفيذ القوانين الدينية التي تمت عام 1983 ، إلى هيمنة الثقافة الإسلامية ، وأدى عدم زوالها مع أسباب أخرى إلى فصل جنوب السودان . ولم تزل القوانين باقية وزادها الحكم الدكتاتوري للإخوان المسلمين .