المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : معركة كرري - و دعوة لاستنهاض الوثائق التاريخية.


imported_عبدالله الشقليني
01-07-2020, 11:11 AM
معركة كرري - و دعوة لاستنهاض الوثائق التاريخية.

قال المؤرخ الفرنسي " جاك بانفيل " :
" بغير الحاسة التاريخية لا وجود للسياسة أو أنها تقتصر على مركبات لا مستقبل ولا أهمية لها "
قال المفكر بول فاليري :
" إن الماضي يفعل في المستقبل بقوة توازي قوة الحاضر ، والمستقبل لا صورة له لأن التاريخ وحده كفيل بإعطائه الوسائل التي تساعد على تصوره "

يقول تولستوي في ( الحرب والسلم ) :
" الإنسان يحيا عن وعي من أجل نفسه بيد أنه أداة غير واعية في تحقيق الأهداف التاريخية الشاملة للبشرية "
قيل :
"إن السياسة هي بنت التاريخ والتاريخ هو ابن الجغرافيا والجغرافيا لا تتغير في الزمن المنظور إلا نسبياً رغم تسارع تخريب البشر لبيئة الأرض التي نعيش عليها "
يُقال :
إن الأنانية والحب والبغض والخوف ... وهي طباع غريزية ، وهي المحركات الرئيسة للنشاطات البشرية .
يقولون إن الفرد لن يستطيع القيام بما يتوجب القيام به إن لم يسترشد بماضيه وماضي البشرية عامة ، بمحاولة جليلة من الذين أسسوا لعلم التاريخ يسهُل النفاذ للُب حياة الأجداد فندرِك قوانينها ونفهم الروابط التي تشُدنا للماضي وتشد الماضي إلينا لنتمكن من مواجهة المستقبل بثقة وعزم وللتهيؤ العلمي والنفسي برؤية .
يقال إن التاريخ لا يصل إلينا بصورة ( خالصة ) لأنها لا تُوجَد ، بل تنعكس من خلال ذهن المُدون ، ويترتب على ذلك صب الاهتمام على المؤرِخ الذي كتب العمل التاريخي أكثر من الحقائق التي يتضمنها العمل .
يكتب المؤرِخ بعد أن يُحقق درجة من الاتصال مع أذهان أولئك الذين يكتب عنهم ، ويمكن النظر إلى الماضي وتحقيق فهمه من خلال عيون الحاضر فالمؤرِخ ابن عصره وهو مُقيد به بحكم وجوده الإنساني ، و وظيفته ليست صُحبة الماضي أو تحرير نفسه منه ، إنما في استيعاب ذلك الماضي كمفتاح لفهم الحاضر .
برنامج قراءة التاريخ وتوسعة صحائفه في الأذهان :
معركة كرري :
مقدمة :
كانت البلاد منفتحة على العديد من دول غرب إفريقيا الحالية ، وحاول محمد أحمد المهدي بث رؤى دينية موحِدة للجماعات والقبائل مع خلق توازن بينها في ظل تآكل نظام الحكم التركي الذي جثم على أهلنا يأخذ مالهم بسياط القهر . جاءت حروباً مُتقطعة من الأطراف وسارت إلى الخرطوم مركز الحكم التركي وهزمته . بقي محمد المهدي بضعة أشهر قبل وفاته ، ومن بعده حكم الخليفة " عبدالله ود تورشين ."
. كان مقتل غردون باشا ليلة استرداد الخرطوم في سراي الحاكم العام في 25 يناير 1885 م هي صفعة لكل المستعمرين في ذلك الزمان ، صفعة للحكم التركي القادم من مصر منذ محمد علي الذي استعمر بلادنا عام 1821 م . وصفعة لإمبراطورية لم تغرب شمسها.
معركة كرري بأم درمان هي المعركة الحاسمة بلا مُنازع ، قامت انجلترا سيدة العالم في أواخر القرن التاسع عشر برد الصفعة بمقتل أكثر من عشرة آلاف في بضع ساعات !!!
أ لهذا غضبت " الملكة فيكتوريا " من دعوة الخليفة عبدالله لها أن تُسلم ليتزوجها أحد قواد المهدية ، فتم استدعاء اللورد كتشنر ( السردار ) من الهند لمهَمة تأديب " الدراويش " كما كانت تسميهم ؟
أ كانت الصفعة قد مست الكبرياء واستدعت الصلف بذاك الغرور ؟
.أن للدُنيا في ذلك الزمان سادة في البر والبحر ولا يقبلون صفعات الصغار وإن نأوا عن قلب المملكة بآلاف الكيلومترات ، فلم يشفع بعدهم للإفلات من الانتقام في كرري .
نعود للخليفة ولن نلبس لبوس الحياد :
كانت هنالك مظالم أيام المهدية ، وكانت قبضة الحديد السلطوية بائنة أيام حكم الخليفة عبد الله والحروب التي انتشرت لبسط السلطة في الداخل أو حروب الخارج التي لم يكن لها من مُبرر . هجر الزراعة للجهاد . كان المُهاجرين من الأطراف إلى مركز حكم الدولة وحظوتهم وتملكم قسراً ممتلكات الذين يقطنون العاصمة وما حولها ، والقساوة على المخالفين قد ألبت كثير من القبائل الجماعات لنُصر جيش المستعمر الفاتح فجاء السردار بقيادة انجليزية وجيش مصري غالب تدعمه بعض فصائل من" الشايقية " و" الجعليين " و" البطاحين" و"الشكرية "وغيرهم من أصحاب الثارات .
يقولون :
ما أسهل اعتلاء السلطة رغم قسوة الصراع عندما نُقارن بالذي حدث من بعد ذلك من انعدام البوصلة والرؤية . تلك التجربة لم يفد منها الوطنيين في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين من بعد الاستقلال ، فعلوا فعلهم حتى الاستقلال ثم انعدمت البوصلة والرؤية .
نكرر ما كتبناه في مقدمة حديثنا عن معركة" الشكابة " .تظل الرواية التاريخية تسبحُ في أذهان كاتبيها ، تراوح مكانها بين عدة محاور : منها الرواية الشفهية ومنها المكتوب الذي يرويه صاحبه بما يحمل في نفسه من أغراض تندس وسط السرد ، ومنها الرواية الإستخبارية التي تجمع كل شيء وهي في مكنونها التدقيق ، وتنشَر وفق خُطط مرسومة ، ومنها وجه اجتماعي ، أو اقتصادي أو جغرافي أو إنساني أو فلكلوري أو ثقافي ، و أوجه أصحاب المصالح ، أو رواية طرف شريك أو مُناوئ أو مُعادي وكلها أوجه من الوجوه التي تؤثر في الحدث وتاريخه . جميعها كُرة متضخمة يتعين تجميع أشتاتها ، ومن ثم إتباع أكثر المناهج دقة لمعرفة ما الذي حدث .

رواية الكاتب : نعوم شُقير :

سِفر ( جغرافية وتاريخ السودان ) بقلم اللبناني ( نعوم شُقير ) الذي عمِل في مصلحة المخابرات المصرية ، يحتوى (1403 ) صفحة من القطع المتوسط ، وهو كتاب باللغة العربية صدر عام 1903 في القاهرة أول مرة ، وأعيدت طباعته في العام 1967 م ، وأعادت نشره دار عزة عام
2007 م ، وقدمت للكتاب الباحثة الدكتورة :
فدوى عبد الرحمن علي طه .

أوردت الدكتورة فدوى في المقدمة أن الكاتب نعوم شُقير قد اعتمد على الكم الروائي من المشاركين الأحداث ومعاصريهم وما سمعه من الأبناء والأحفاد وكان جُل اعتماده على روايات الضباط والأعيان ، وأوضحت الدكتورة أن الجغرافيا مُرتبطة بالتاريخ ، ويحتوي السفر على قدر كبير من السرد التاريخي وفق الأسس المتبعة أكاديمياً ، ويأخذ عليه كثير من المؤرخين أن النص هو نص رجل استخبارات له ما له من الأغراض ، لكنه يعتبر مصدراً هاماً من مصادر التاريخ رغم اختلاف المؤرخين حوله فقد ظل هذا السفر المرجع الأساس حتى ظهور كتابات أكاديمية عن المهدية مثل كتابات بيتر هولت ومكي شبيكة ومحمد إبراهيم أبو سليم وهم رواد الدراسات الأكاديمية عن المهدية ، ومن اللاحقين الدكتور عبد الله علي إبراهيم وغيره .
هدف الدراسة :

إن الكثير من تاريخ موطننا وأحداثه الجسام لم تتم كتابته أو تدوينه كاملاً لتعقيد الحياة وضعف التقنية عند أهلنا . ونذكر هنا أسفار الشيخ بابكر بدري وقد دون فيها التاريخ منذ طفولته ، وقد شارك في المهدية وحارب في معركة توشكي بمصر وأُسر وقتل في توشكي بعض أقربائه ، وعاد من بعد للسودان ومن بعد بداية الحكم الثنائي دون أسفاره التي نأمل من يمدنا بما كتب عن ( معركة كرري ) .

نأمل من الأفاضل والفضليات مدنا بأية نصوص من مصادر متوفرة ، إذا نهدف الوعي بالتاريخ ، ولملمة أشتاته التي كُتبت في الأسفار ، و حُفِظت في الصدور ، لتكن المادة كاملة مساهمة لنقل المعرفة بتاريخنا أولاً وتنوير من هم في مقتبل العُمر ، والذين لم تسهم المناهج المدرسية في تعميق معرفتهم بمفاصل تاريخهم .
حسرة التجربة الأولى :

كان اختيارنا ( معركة كرري ) نتبع بها الملف الذي تحدثنا فيه عن ( معركة الشُكابة ) حيث كنتُ آمل أن يمدنا الأحباء هنا بروافد وقصصاً لم تدونها الكتب والصحائف ، أو تفرقت في كتب الأدب أو الصحافة أو ذكريات البعض ولم نحظ في معركتنا في سبيل المعرفة بكثير شيء عن ( معركة الشكابة ) وأصبت بحسرة !!!!
ربما أحجمت الأقلام التي تعرِف عن التاريخ ، ولديها تصور عن أجندة خفية ربما تكون لكاتب مثلي يستسهل الكتابة على البلور في الشبكة العنكبوتية ، و ربما يلفه الكثير من الغموض . ولمن يتوجس نقول إن البنان الذي أكتُب به بنان حُرٍ يقف على مسافة متساوية من الأحزاب والطوائف ، ولا أرضى الظلم ولديَّ إيمان بالعدالة والمساواة وإن عزَّت في هذا الزمان وأحب الفقراء وأتوجس من غنى كجزرٍ تقف وسط بحر من البؤس ، ولدي موقف من الحياة والإنسانية ولا يحملني التيار .
أمل :

نأمل أن يتوفر الزمان ليصل المشروع كل أركان الوطن جنوبه وشماله وغربه وشرقه و أن يكون الملف فُسحة في التاريخ وكهوفه وطرقاته الوعرة ، ونأمل أن يكون الملف زاخراً بالتاريخ كعلم مع ذكر المصادر .


**


بدأنا مسيرة الحديث
الإنسان و التاريخ :
أ الإنسان مادة وروح أم هو عقل مُخطط أم كائن حُر أم هو نتاج علاقات اقتصادية أم هو نتاج علاقات اجتماعية أم هو نتاج سيكلوجية الفرد ؟
أ هو فاعلٌ أم مُنفهل ؟
أ هو صانع للتاريخ أم مِن صُنعه ؟
أ هو كائن ميّال للخير أو هو منبع الشرور ؟
إن الأنانية والحب والبغض والخوف ... وهي طباع غريزية ، وهي المحركات الرئيسة للنشاطات البشرية .

ونواصل
**

imported_عبدالله الشقليني
01-07-2020, 11:15 AM
معركة كرري ـ 02/09/1898 م ـ دعوة لتجميع المصادر .
المصدر :
حروب المهدية
تأليف \ك روبن نيللاند
ترجمة : د. عبد القادر عبد الرحمن
الطبعة الأولى 2002م
***
نواصل في ملخص مُسهب عن معركة أم درمان :
معركة أم درمان
من الفصل الثامن عشر من كتاب معركة النهر :
أصبح واضحاً أن قوة الأنصار لا تستطيع الصمود أمام الأسلحة الحديثة والجنود النظاميين الأكفاء . ظلت حملة كتشنر بطيئة ولكنها مطردة . بفضل الخط الحديدي العسكري لم يحتج كتشنر للانتظار طويلاً ، وبدأت تنهال عليه برقيات التهنئة بعد سقوط عطبرة وبدأت القوات الإضافية في الوصول لدعمه .وتم نقل الإمدادات وأثبتت البوارج فائدتها في الاستطلاع المتقدم والقصف التمهيدي والمساندة المدفعية للقوات على الشاطئ وتم زيادة البوارج إلى عشرة وكلها مزودة بالمدفعية ورشاشات المكسيم . وصلت المدافع والرشاشات لكتائب الجيش المصري بالإضافة لسريتين من مدفعية الهاوتزر . أصبح لكتشنر ستة ألوية من المشاة ، هي لواء الجنرال لويس ولواء ماكدونالد ولواء ماكسويل ولواء ووشوب
ولواء ليتلتون ولواء كولسون بالإضافة إلى الخيالة والهجانة . بلغت قوة كتشنر في جملتها خمسة وعشرون ألفاً وثمانمائة جندي ، ثلثهم من البريطانيين .
كانت فرقة الخيالة مكونة من جنود الفرقة 21 . لانسرز الذين لم يشتركوا في معركة منذ تكونت فرقتهم منذ أربعين عاماً ، جاء يبحثون عن المجد . كان بين ضباط الفرقة الشاب الليفتينانت ونستون سبنر شرشل ، الذي كان يراسل الصحف بمقالات عسكرية ويكتب عن الحملات وهم ، وكان كتشنر قد منعه من الحضور للسودان ، لكنه حضر وكان يتجنب السردار ، وعمل كضابط ملحق بفرقة الخيالة ( اللانسرز ) و مراسلاً حربياً لصحيفة ( المورننيج بوست ) اللندنية ، ولم يكن كتشنر قد فطن لوجوده من ضمن الجيش ، وقد كان كتشنر مثل ولسلي من قبل يكره الصحافيين ، مع أن الفضل في شهرته و تسجيل أعماله يرجع إليهم في تتبع حملة أم درمان عام 1889 م .
صار الجيش المصري مكوناً من ستة عشر كتيبة ، ستة منها من المحاربين السودانيين الأشداء . يكون بذلك عدد القوات الإنجليزية المصرية أكثر من خمسة وعشرين ألف رجل ، ثلثيهم من السودانيين والمصريين . تحركت القوات صاعدة مع النيل وعن طريق البر والنهر بالبواخر ، وبنهاية أغسطس تجمعت القوات في ود حامد على بعد ستين ميلاً من شمال أم درمان .
يملك الجيش مدفعية حديثة وقذائف شديدة الانفجار وأضواء كاشفة وبنادق متطورة وبوارج حربية وعدد كبير من الجنود المحاربين جيدو التدريب .
لا يوجد في السجلات رد فعل الخليفة عبد الله ، وكان لدى الخليفة عدد كبير من المقاتلين الذين لا نظير لشجاعتهم ، بلغ عدده خمسة وخمسين ألف رجل ، ثلثهم كان مسلحاً بالبنادق أما البقية فكانت تحمل السلاح الأبيض . أمرهم الخليفة بالتجمع في أم درمان وطلب النصر من الله عند قبر المهدي ، وكما حدث مع محمود ود أحمد في عطبرة طلب الخليفة بتحصين المدينة ، لكنه أغفل الحرب الدفاعية من مهاجمة خطوط إمداد الجيش يستنزف فيها طاقة وجهد رجال كتشنر ، أو أن ينسحب لسهول كردفان مكرراً نفس التكتيك الذي دمر هكس باشا في أول سنة من عمر المهدية .
كان الطريق مفتوحاً منذ 1889 م إذ كان الخليفة حاكماً وتلك أقل مما كان للمهدي كرمز ديني ( 1881 - 1985) ، ولم تعد المهدية بتلك القوة ، وأصبحت الكثير من قبائل كردفان ودار فور وعلى طول نهر النيل غير راضية عن حكم الخليفة الجائر ، وقد يكون هذا السخط هو السبب الأساسي الذي دفع الخليفة إلى البقاء والحرب في أم درمان .
**
معركة كرري :
لا أعرف من أين تبدأ القصص المغموسة بالرغبات وأين تنتهي الحقيقة التي نأمل في التاريخ . يقولون هو من أكثر العلوم التي يعبث بها أصحاب الأهواء و سدنة السلاطين و يتقنون الكتابة التي تظل تراوِح مكاناً هو أقرب لفلكلور الشعب .

(2)

بدأ كتشنر زحفه لأم درمان في 20/08/1889 م . اللواء البريطاني يسير في مربع واحد ضخم تحميه البوارج على طول الضفة الغربية للنيل ، أما الكتائب المصرية والبريطانية فهي تستطلع الوديان من أمام المشاة وفي نفس الوقت كانت هنالك قوة مكونة من ألفي جندي غير نظامي من السودانيين والأحباش الأشداء بقيادة الميجور " ستورات و أرثلي " وهي موازية للقوات الرئيسة على الضفة الشرقية للنيل .
استمر الزحف (3) أيام ولم تظهر خلالها طلائع الأنصار أو جيشهم حتى (31) من أغسطس حين لاحت قمم جبال كرري آخر معلم طبيعي بارز قبل مدينة أم درمان ، وعندها شاهدت الطلائع المتقدمة من خيالة كتشنر طلائع فرسان الأنصار يراقبون الجيش الغازي من المرتفعات أمامهم .
لم تكن جبال كرري ترتفع في أحسن الأحوال عن (250) قدماَ وهي تمتد متعامدة مع ضفة النهر الغربية وإلى مسافة ميلين داخل الصحراء ، لكنهالا منبسطة وتوفر نقطة مراقبة جيدة كما أنها خط الدفاع الطبيعي الوحيد أمام أم درمان .
في أول سبتمبر وبينما خيالة كتشنر يستطلعون الجبال و صدرت أوامر لقائد الأسطول النهري للصعود ببوارجه إلى أم درمان و وصل في ضحى نفس اليوم وفتح نيران مدفعيته الثقيلة على دفاعات المدينة وأمطر منازلها بنيران المدافع الرشاشة و وجعه مدافعه نحو نقاط مختلفة داخل المدينة مركزاً بصورة خاصة على القبة العالية المقامة على قبر المهدي والتي سرعان ما ظهرت عليها عدة فتحات كبيرة من جراء القصف .
سيطر الميجور " ستيوارت " بواسطة القوات الصديقة غير النظامية على نقطة مدفعية الأنصار قرب المدينة من الضفة الشرقية للنيل ، وعلى تلك النقطة نصبت بطارية من مدافع الهاوتزر عيار خمس بوصات ، انضمت إلى البوارج في قصف المدينة محدثة خراباً كبيراً وخسائر جسيمة في الأرواح .


ربما كان القصف العنيف للمدينة أحد العوامل التي أثرت على الخليفة لاتخاذ قراره بالخروج من أم درمان والقتال في العراء ، لو أن الخليفة اختار القتال في طرق وأزقة أم درمان الضيقة لأحدث الأنصار المسلحين بالسيوف والحراب دماراً كبيراً وسط الجيش الإنجليزي المصري ، لكن القذائف المتساقطة والدخان والضجيج و صفير الطلقات إضافة لصرخات المواطنين و انهيار قبة المهدي ربما أقنعت الخليفة بأن المدينة غير مناسبة كأرض للمعركة . وفي ليلة ذلك اليوم أمر الخليفة قواته بالخروج إلى خارج المدينة ، حيث أعد الأنصار أنفسهم للمعركة الفاصلة في السهول المنبسطة شمال أم درمان ، بسرعة رصدت طلائع الاستطلاع التابعة لكتشنر ذلك التحرك .
عبرت قوات الخيالة الاستطلاعية بقيادة كولونيل مارتن
جبال كرري صبيحة يوم الفاتح من سبتمبر عقب الفجر بقليل وصعدت قمة جبل " سرغام " للاستطلاع ، وجبل "سرغام " منعزل ويبلغ ارتفاعه 260 قدماً إلى الجنوب قليلاً من سلسلة جبال كرري . ومن قمة ذلك الجبل كانت الرؤية واضحة لأم درمان و لقصر غردون يقف بين أطلال الخرطوم على الضفة الشرقية للنهر .وبالنظر إلى جهة الشمال شاهد خيالة " اللانسر " القوات الإنجليزية المصرية وهي تنفذ من بين سلسلة جبال كرري . بقيت "اللانسر " في موقعها على قمة جبل " سرغام " إلى الظهيرة ، وعندما شاهدوا المساحة الفاصلة بينهم وأم درمان ، ما بدأ لهم و كأنها زريبة ، وبالمعاينة الدقيقة لتلك الزريبة اتضح أنها تتحرك ، وأدركوا أنها قوة ضخمة من الأنصار يبلغ حوالى أربعين ألفاً تسير في خمس فصائل على رأس كل واحدة منها راية وقد انتشرت على مساحة أربعة أميال في تلك السهول .تقدمت الغابة الضخمة من الرجال والحراب سريعاً تجاه جبل " سرغام " . قرر الكولونيل " مارتن " البقاء أطول فترة ممكنة لمراقبة حركة العدو في تقدمه وكان يرسل المعلومات بإشارات ضوئية لكتشنر ، كما قرر الاستفادة من الضابط الملحق غير المرغوب فيه اللفتينانت " ونستون تشرشل " بإرساله مع تقرير بتحركات العدو إلى الجنرال كتشنر وصل بجيشه جنوبي جبال كرري وظل ينتظر بقرية " العجيجة " على الضفة الغربية للنيل ولم يشاهد جيش الأنصار بعد .


عمد تشرشل لتفادي لقاء الجنرال كتشنر ، كما أنه كان رغب مشاهدة الأنصار وهم يتقدمون بدلاً من مواجهة " السردار " ، لكن الأوامر العسكرية لا يمكن مراجعتها .كان الجنرال منشغلاً عن ملاحظة ضابط صغير فرجع تشرشل بعد ذلك لفرقته فوق جبل "سرغام " .
استمر الأنصار في زحفهم على السهول تحت جبل "سرغام " طوال فترة ما بعد الظهر ، إلا أنهم توقفوا أخيراً . كانت الإشارات الضوئية تنقل أخبارهم أولاً بأول للسردار ، بينما استمر الخيالة والهجانة في الاستطلاع في فترة ما بعد الظهر حتى لا يتعرضوا لهجوم مباغت من الخلف . بحلول الليل استقر الجيشان على بعد أميال قليلة عن بعضهما في انتظار الغد .
كان كتشنر قد ترك جيشه قرب العجيجة معظم اليوم وعند الغروب أمر قواته
باحتلال بعض المواقع حول القرية وبناء زريبة على شكل قوس تاركين النهر خلف ظهورهم ، لكن السكان المحليين جمعوا الأحطاب والشوك والشجيرات في المنطقة لاستعمالها لأغراضهم الخاصة مما أحدث نقصاً ، فعمد الجنود البريطانيين يستولون عليها لإقامة الزريبة ، أما الجنود السودانيون والمصريون فأقاموا متاريس من الحجارة وحفروا الخنادق حول مواقعهم . بعد أن فرغ الجنود من بناء الزريبة عاد خيالة إلى الزريبة من على جبل "سرغام " التي احتلته من بعدهم طلائع الأنصار .


كان الخطر الحقيقي الذي يتهدد كتشنر هو أن يشن الأنصار هجوماً ليلياً مباغتاً ، ولم يكن ما يمنع الأنصار من فعل ذلك رغم كشافات البوارج التي تمسح السهل طوال الليل ، إلا أن بعض التقارير تقول أن كتشنر قد قام بإخراج سكان العجيجة من قر يتهم بعد أن أخبرهم أنه ينوي القيام بهجوم ليلي على الأنصار ، وبهذه الخطة الذكية جعل الأنصار يبقون في حالة دفاع إلى الفجر ، وأغلب الظن أن الخليفة لم يكن يعرف ماذا يفعل .إذ اعتقد أن أي تحرك للأمام كان سينكشف بأضواء الكشافات . قلائل من جنود جيش كتشنر هي التي تمكنت من النوم تلك الليلة ، رغم أن الأمطار التي كانت تبللهم في الأسبوع السابق قد توقفت تلك الليلة ، كما أن دقات الطبول الآتية من اتجاه معسكر الأنصار كانت لا تتوقف ، مما جعل معظم الرجال مستيقظين طوال الليل .
في الثالثة والنصف من فجر يوم الجمعة الثاني من سبتمبر 1898 م نهض اثنان وعشرون ألف رجل من جنود الجيش الإنجليزي المصري في حالة استعداد وهم يتطلعون إلى السهول الممتدة أمامهم كلما صارت السماء أكثر ضوء . انطلقت أبواق الاستيقاظ في تمام الثالثة والأربعين دقيقة ، كما انطلقت أصوات دقات الطبول والمزامير بين كتائب " الهايلاندرز" والأبواق أمام الكتائب الإنجليزية ورفاقهم في السلاح من الكتائب السودانية والمصرية . وانطلقت فرق الخيالة بعد الخامسة نحو جبل " سرغام " بينما اصطف المشاة في الزريبة في وضع الاستعداد لمواجهة هجوم الأنصار .
وضع كتشنر قواته في تشكيل شبه دائري حول العجيجة متحسباً للدفاع وللهجوم . كان لواء حملة البنادق البريطاني على الشاطئ من الجهة الجنوبية للقرية وبقية الجيش في نصف دائرة حول القرية تنتهي بالكتائب المصرية من الجهة الشمالية ، و وضعت المؤن والإسعافات و دواب النقل في الوسط بينما وقفت البوارج في النهر مستعدة لتقديم الدعم للمدفعية الأرضية .
بقي جيش كتشنر في وضعه ذاك أكثر من ساعة إلى أن انتشر ضوء الصباح ، وعندها حضر أحد خيالة " اللانسر " مسرعاً من اتجاه جبل " سرغام " وبدأ الهمس يسري بأن الأنصار يتقدمون وبوصول آخر طلائع الخيالة ظهر صف عظيم من الرايات الملونة في الأفق من وراء الصحراء ، وغدت أصوات الطبول أعلى ، وظهرت ملامح المشاة والفرسان يتقدمون نحوهم تحت غابة من الرماح والأعلام . إنهم آلاف بل عشرات الآلاف من الأنصار المقاتلين في هجوم على الجيش الغازي .

وما شاهده الجيش الإنجليزي المصري أمامه في ذلك الصباح كان أكبر حشد عسكري شهدته إفريقيا منذ الحروب الصليبية ، فيما عدا بضعة آلاف يحملون البنادق كان الأنصار جميعاً مسلحين بأسلحة بدائية من القرون الوسطى تمثلت في السيوف والحراب والفؤوس والسكاكين ، وكثير منهم كان يحمل ترساً |، وبعض الأمراء كانوا يلبسون الدروع الحديدية . تدفق جيش الأنصار على جانبي جبل " سرغام " . كان أول ما ظهر منه مجموعة تقدر بثمانية آلاف مقاتل يحملون رايات بيضاء ، تبعتهم فرق من المقاتلين تقدر بحوالي عشرين ألف رجل يتقدمهم صف من الرايات الخضراء . اتجهت كلا المجموعتين إلى الزريبة الإنجليزية المصرية قاطعين السهل المنبسط بسرعة كبيرة . الرجال على الأقدام والأمراء على الخيول أو الجمال . تلكما الفرقتان رغم كبرهما لم تكونا إلا جزء من القوة الضخمة المندفعة وراءهم عبر السهل الممتد أمام الزريبة متجهين نحو جبال كرري التي كانت تحت حراسة الخيالة المصرية والهجانة .

صدر الأمر لقوات الجيش الإنجليزي المصري بفتح النيران على قوات الأنصار في تمام الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة ، ومع بداية النيران بدأت المذبحة بين صفوف الأنصار . كانت البداية من المدفعية الأرضية ومدافع البوارج ورشاشات المكسيم التي صبت جحيماً من النيران على كتل الأنصار المندفعة وهي على بعد ثلاثة آلاف ياردة من الزريبة . كل قذيفة تنفجر تترك مكانها دائرة من القتلى والجرحى وأعمدة من الدخان والغبار بين صفوف الأنصار ، لكن المقاتلين الأنصار كانوا مندفعين رغم القذائف والرصاص والشظايا المعدنية يطلقون صيحات الحرب و يضربون الطبول ويلوحون بالأعلام والرايات ، ولما بلغ الأنصار مدى ألفي ياردة فتح مشاة الجيش الإنجليزي المصري مدافعهم


في بهو العلم يحق للمرء أن ينحني تجلة لمن يذكرونك حين تنفع الذكرى .
الشكر الجزيل لك أيها الدكتور العزيز ، فقد أصلحنا الرقم الطباعي في تاريخ افتتاح غردون التذكارية :
1902 بديلاً عن التاريخ الذي ورد طباعياً ( 1920 )

في الباب الخامس من سفره الضخم " جغرافية وتاريخ السودان " كتب المؤرخ ورجل الاستخبارات اللبناني الأصل : نعوم شقير يوم افتتاح مدرسة "غردون " التذكارية وحكى في حديثٍ مقتضب أن" اللورد كتشنر اوف خرطوم" وقد خرج ظافراً من حرب" الترنسفال" فسُمي قومنداناً عاماً على الجنود في الهند قد عرَّج في طريق عودته للخرطوم وافتتح مدرسة "غردون " التذكارية في الثامن من نوفمبر عام 1902 م . كان الاحتفال باهراً . حضره نحو خمسمائة من تلاميذ أبناء البلاد وجمهور غفير من الموظفين والأعيان . رحب به الحاكم العام اللواء السردار الادجوتانت جنرال"ونجت باشا " أيما ترحيب وأمَّل " كتشنر" كثيراً لمدرسة "غردون" في عهد مديرها "المستر كري " أن تصعد سلم الرقي والتقدم .
من تلك النواة تطورت المدرسة إلى " كلية غردون التذكارية " ثم لاحقاً إلى جامعة الخرطوم .

imported_عبدالله الشقليني
01-07-2020, 11:23 AM
أعلاه جزء من ملف قديم كتبته عام 2010 ، في سودانيزأونلاين ، مع الصور . ولكن بكري أبوبكر ومدونته ضيعوا الملف وقد أرسلت له الرسائل المتعددة ولم ينفع . أخيرا بحثت عن كوم ملفات قديمة لعل ولو.
وتحصلت ‘لى هذا الملف مع أني لم أقطع الأمل