المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الملح


شوقي بدري
28-06-2008, 10:10 PM
عندما كتبت هذه القصه القصيره كانت هنالك قصص كثيره متداوله عن تقول رجال ونساء سلطه الانقاذ على اراضى تخص الدوله وتخص بعض الافراد . ولكن لم اكن اظن اننى سأصير احد الضحايا فى يوم من الايام . فكما عرفت من شقيقتى الهام بدرى انها مرت بجانب العقار رقم 3 مربع 13 فى المقرن لتجد ان العماره قد اختفت وقامت شركه تسمى شركه العمده برهن الارض البالغه 2500 متر مربع الى بنك امدرمان بمبلغ سبعه مليارد جنيه سودانى . والامر الآن امام القضاء وانا لم اضع رجلى فى السودان منذ ظهور الانقاذ ولا ادرى كيف وضع توقيعى على الاوراق .

...
الملح

مأمون كان سعيدا بحضور ابن خالته مصطفى الى امدرمان فى الاجازه الصيفيه . فهو يكبر ابن خالته بسنه كامله مما جعله موضع اعجاب ابن خالته منذ الطفوله . وابن خالته يسكن مدينه كوستى حيث يعمل والده كمهندس زراعى . مأمون قد اكمل السادسه عشر . وهذا يعنى انه قد اكمل السنه الاولى فى المدرسه الثانويه . اما ابن خالته فكان سيبداء الدراسه فى مدرسه خور طقت المشهوره خارج مدينه الابيض .
وبينما الاثنان يقومان بانتزاع كتل ضخمه من الطين من ضفه النيل تحت الجسر الحديدى القديم الذى كان الرابط الوحيد بين الخرطوم وامدرمان . والغرض كان تجميع اكبر كميه من الديدان ( الصارقيل ) لممارسه هوايه صيد السمك .
وفجأه يظهر اثنين من الشباب يقارب عمرهما العشرين ويبدو احدهم ضخماً ولا تخلو نظراته من شراسه . ويقوم الشاب القوى بطردهم بعد ان طوح بالديدان وكتل الطين الى الماء , الذى يأتى مندفعاً بشده ممتلئاً بالدوامات القويه . لان جزيره ود دكين تفصل النيل الابيض الى فرعين سريعي الجريان يلتقيان بالنيل الازرق على مرمى حجر من الجسر .
وعذر الشاب ان التيار يدفع الطين لكى يملاء البئر ( المتره ) التى تأخذ الساقيه منها الماء . وكاد الامر ان يمر بسلام الا ان الشاب القوى اكد وجهه نظره ببعض الاساءت البذيئه . فاعترض مأمون بأن النيل لا يجرى الى الجنوب وبما انهم يحفرون شمال الساقيه فلا يمكن ان يرجع الطمى الى البئر . فيلتقط الشاب معدات صيد السمك وبالرغم من تحذير رفيقه يطوح بهم الى النهر . ويعطيه مأمون نظره غاضبه احسته بأن الامر ليس منتهياً .
وبعد اقل من اسبوع كان عم الامين يصب جام غضبه على ابن اخيه والدنيا وكل الابالسه . فكثير من اشجار البازنجان قد ذبلت او ماتت . وبعد الكشف عليها ظهر ان كميات من الملح قد وضعت حول سيقانها . ولقد اخفت اوراقها العريضه الملح الذى ذاب مع الماء واختلط عميقاً بالتربه مما جعل التخلص منه فى حكم المستحيل .

الامين كان يكره الزراعه والزراع . ووالده الذى كان تاجر مواشى يشترى الماشيه فى الباديه ويبيعها لاهل امدرمان , قام بإرساله الى عمه فى امدرمان كنوع من العقاب . والمشكله بدأت عندما حل بوالده اثنين من المادحين , اللذين ينشدون المديح ويروون القصص والطرائف , ويمكثون عند بعض أهل الثراء ثم ينتقلون الى بلدة او حى آخر . بعد ان يذودوا بالمال والزاد .
المادح زعم انه شاهد الامين عند مربط الدواب يقوم بربط سرواله . ويبدو انه كان يقع على حماره . وأفتى المادح بأن اى حيوان يقع عليه بشر يحرم اكله ركوبه او بيعه . وبالرغم من ان الامر لم يكن مؤكداً الا ان الامين وجد تقريعاً وكثيراً من الاساءه .
وفى الليل استيغظ المادح والامين يقبض على عنقه ويقول انه قد فرغ لتوه من حماره المادح . وانه سيمارس نفس الشيء مع المادح ورفيقه اذا لم يعجلاء بمغادره الحي . وان لا مخرج لهما لان والد الامين خارج الحى .
وتناول البدو فى الحلال وعند الآبار قصه المادح المزعور الذى زعم ان حفيد الشيخ الامين شيطان فى شكل انسان . وانهم اضطروا للسفر فى وسط ليل اختفت فيه حتى النجوم .
وبينما الامين ممسكاً بالطوريه لقلع الشجيرات الميته وحفر التربه , تهيئاً لتغييرها بتربه جديده وهو يلعن اليوم الذى جعل منه مزارعاً . بعد ان كان يكتفى بالركوب ومراقبه قطعان الماشيه . كان مأمون يقف على الجسر ويستفسر عن الملح وحال الامين .
اندفع الامين وهو لا يزال يحمل الطوريه وسط دهشه رجل البوليس الذى يقف فى بدايه الجسر وسائقى العربات والحافلات . وحتى بعد ان كان على بعد امتار من مأمون وهو يلهث ويتصبب عرقاً من التعب لم يبد الخوف على مأمون . وبسهوله انحشر فى احدى فتحات الجسر . ثم انزلق بسهوله على احد الدعائم الحديديه التى تربط اقدام الكبرى بطريقه متقاطعه .
وغالب الامين خوفه وغرابه الموقف وهو لا يزال يلهث وتبع مأمون الذى لم يكف عن استفزازه . وعندما أحس بأنه على وشك ان يحصر مأمون . قفز مأمون بسهوله على الصندل المفتوح الذى يستخدم فى فتح واغلاق الجسر ويتبعه الامين . وبسهوله يدخل مأمون حزاء السفنجه فى يديه ويقفز الى الماء , فى المكان الذى لم يشاهد الامين اى شخص يسبح فيه , ويختفى مأمون ثم تظهر سيقانه اولاً وكأنها تسخر من الامين , ثم يظهر وجهه ويبدو ضاحكاً .
وجد الامين نفسه واقفاً على صندل مفتوح ورجل البوليس وبعض الماره يطالعونه بنظرات ساخره . وبعد ساعتين من الانتظار أتى عمه وبعض الرجال لاخذه بمركب . واجبروه لجر المركب بالحبل الى المربط على بعد عده كيلومترات جنوب الجسر متعرضاَ للاستخفاف والتقريع والسخريه . لوقوفه محتاراً على الصندل وهو يحمل طوريه كالمجنون . وابدى عمه سعادته لانه قد عرف بالشيطان ولكن ها هو قد وجد ابليس فى شكل طالب ثانوى بسروال قصير .
وبينما الامين يقف على ضفه النيل فى الصباح الباكر على بعد خطوه من الماء احس بيدين تقبضان على اكتافه . وصوت يهدده بأنه سيقذف به الى الماء من الضفه العاليه , لتبتلعه الدوامات . وكما قال الامين لابن عمه الامين الآخر فيما بعد تلك كانت اول مره يحس فيها بأن ركبه تهتز تحته . ثم احس بصفعه وبعدها قفذ ذلك الشيطان بسروال المدرسه القصير الى النيل .
ونحن فى المدرسه الثانويه كان عبد المنعم انيقاً ينفر من التحديات والعراك ويفضل النقاش . ويبدو غير راضي عن كل شئ . يختار كلماته بعنايه ويسخر من اغلب العادات السودانيه . وكان لا يشاركنا الطعام من طبق واحد كالعاده . ويقول ان الاكل من طبق واحد عاده متخلفه تنقل العدوى . ويفتخر بأنه لم يتذوق الكسره فى حياته .
ولهذا لم استغرب عندما انضم الى السلك الدبلوماسى , واكثر شئ كان يضايقه , هى الفتره التى كان يقضيها فى السودان حسب سياسه وزارة لخارجيه . ويشتكى من الغبار والذباب والطعام والبروقراطيه . ولكن ما كان يثير حفيظته اكثر هو عدم الاهتمام السودانى والكسل . ويصب جام غضبه على العامل السودانى . فبعد جهد تكامل بناء منزله ولكن التشطيبات تعثرت .
وبينما نحن جلوس فى سياره عبد المنعم , وهو ينتقد الشوارع السودانيه والحفر والمطبات وغباء السائق السودانى وبلادته , تتخطانا سياره جميله من ذوات الدفع الرباعى يجلس فيها شخصان احدهم ضخم الجثه يرتدى جلباباً واسعاً وعمامه ضخمه وهو يلوح بيديه بطريقه بلديه .
وبطريقه اكثر بلديه يوقف عبد المنعم السياره . ويعطل الحركه لكى يحتضن سائق السياره الضخم مما أعاق الحركه , والسعاده تبدو على وجهه وكأنه طفل فى ليله ( قفله المولد ) .
واعرف من عبد المنعم ان صاحب العربه صهر احد اصدقائه المقربين وزميله فى جامعه الخرطوم . ولولاه لما تكامل بناء المنزل لانه اشرف على بناء المنزل ومراقبه المقاول والعمال . وله طول باع فى معرفه كل الناس وخبره فى شراء المواد . وقدره على اخافه العمال والمقاول . وكان عبد المنعم يؤكد ان هذا ما يحتاجه الفرد السودانى لانهم لا يعملون بدون خوف .
وفى صباح يوم الجمعه يصحبنى عبد المنعم الى منزله فى الرياض . ويحضر صاحب العربه وزميله الصامت . وبعض الرجال على ظهر عربه شحن صغيره , مصحوبين بخروف وفحم وموقد واوانى ومولد كهربائى صغير لان المنزل لم يكن مذوداً بالكهرباء . والامين يقول ان العاده السودانيه ان يذبح خروف ويقام حفل لاخراج الشياطين من المنزل. ولم يحتج عبد المنعم .
وتعرفت بصديق عبد المنعم الامين وابن عمه الصامت وشاب صغير وسيم واسمه كذلك الامين عرفت انه ابن الصديق المغترب وزميل دراسه عبد المنعم . وتسعد ابنه عبد المنعم الشابه بوجود الامين الصغير وتناديه بأمين مما يجعل الامين الكبير يذكرها بان اسم الشاب هو ( اللمين ) تيمناً به وبجده الكبير الشيخ اللمين . الا انه يقول انه قد يقبل باسم امين فقط منها هى . وبعد الشواء غناء اثنين من مغني الحقيبه وطعام الغداء اللذى قدمه طباخ متمرس عباره عن قصعه كبيره من الفته تتخللها الكسره السودانيه والخبز ولاول مره أرى صديقى عبد المنعم يأكل الكسره ويبدو سعيداً ويراقب ابنته باستمرار وهى تجلس بالقرب من الامين الصغير الذى يدرس فى جامعه الخرطوم ويتحدثان بصوت منخفض فى بعض الاحيان . ولم يفت الامر على الامين الكبير وقام بتطمين عبد المنعم مذكراً له بأن الشاب ابن رجل فارس مشهود له بالعفه والشرف . كما انه سمى عليه مما يجعله شخصاً موثوقاً به . فيتدخل ابن العم لاول مره مذكراً الامين بانه كان له سمعه فى بدايه شبابه بانه كان يقع على كل شئ حتى الحيوانات . وينفجر الجميع فى ضحك صاخب .
وينتقل الكلام عن والد الامين الصغير وصديق عبد المنعم وكان الامين الكبير يتكلم عنه بود ومحبه بالغه ويصفه بالرجل الكامل والصهر الذى لا غبار عليه . ويشيد عبد المنعم كذلك بصديق دراسته الذى كان مميذاً فى دراسته ومن ابرز اعضاء فريق السباحه . واعرف ان صديق عبد المنعم الذى يعمل فى الخليج , متزوج من ابنه شقيقه الرجل الصامت . وهو ابن عم ( اللمين ) وشريكه , والاثنان يعملان كمصدرين للماشيه ويستوردان الشاحنات والسيارات وقطع الغيار وكل ما يخطر على البال . ولقد دبر لهم الاقامه فى الخليج صهرهم .
وعندما ذكر الامين بأنه قد صفع والد الامين الصغير فى يوم عرسه اصبنا جميعاً بالدهشه حتى الامين الصغير . ويضحك الامين ويقول لنا انها لم تكن صفعه احتقار او غضب بل كانت صفعه فرح ودهشه وتحقيقاً لوعد قطعه الامين على نفس .
واعرف قصه ( الملح ) فوالد الامين الصغير هو مأمون الذى حمل عشرين رطلاً من الملح من وسط امدرمان الى الجسر مضحياً بعشرين قرشاً . كانت ثروه بالنسبه لشاب صغير فى الستينات .
عندما عرف ( اللمين ) بان ابنه عمه التى تكبره تستعد لزواج ابنتها فى امدرمان هيأ نفسه كالعاده لحفل قد يستمر لاسابيع تتخلله الزغاريد والغناء . ومغنيات الدلوكه والعرضه ولعلعه البنادق والجلد بالسياط فى البطان والدماء التى ستسيل من ظهور الرجال و( القنا) او الغاب الذى قد تشبع بالزيت لكى يشعل فى الامسيات . ولكن عندما عرف ان الزواج سيكون حفلاً واحداً . وعريس وعروسه يجلسان على كوشه , والاكل يقدم فى اطباق صغيره تقدمها شركه متخصصه . اصيب بخيبه امل خاصه وهو قد حضر الى امدرمان مصحوباً بخيره اصدقائه .
ارغى الامين واذبد وابدى ندمه على الحضور مع اصدقائه . واصفاً لهم بالفرسان اللذي يختلفون عن العريس الجبان وشاكلته من اولاد المدينه , وبخل اهل العريس اللذين يختزلون الحفل فى يوم واحد . رافضاً ان الدنيا قد تغيرت . وابدى حسرته لان العروس التى بمثابه ابنته ستزف الى شاب خائب من اولاد المدينه لن يثبت فى أقل مشكله او كارثه .
وعندما يشاهد ( اللمين ) العريس يقف مندهشاً . وبدون ان يقصد تمتد يده بصفعه بحركه لا شعوريه . وقبل ان يفيق الجميع من دهشتهم كان يحتضن العريس ويقول ان العريس هو الرجل الوحيد الذى اخافه فى كل الدنيا . واجبر اخيراً لان يقتنع بان مأمون قد ( غلبه ) . الا انه قد أقسم ان يذيقه يده فى يوم من الايام وان ينتقم لاهانته . ويؤكد انه سينال انتقامه فله وضع خاص فى قلب العروس كخالها . والعروس اشتهرت بقوه الشخصيه والعناد والجمال . وستأخذ بثأر خالها .
واستمر الحفل الى الصباح واحضرت دلوكه . ورقص الرجال وعرضو وشربوا وتمايلوا ولم يتركوا العريس ليرتاح , والامين يبدى فخره بصهره عضو الاسره الجديد .
واعرف من ( اللمين ) انه يعتبر ساكن شبه دائم عند مأمون فى الخليج وعندما يتظاهر مأمون بالضيق بسبب الامين وضيوفه ومعارفه الكثيرين . يكتفى الامين وزوجه مأمون بتذكيره بقصه الملح . ويضحك الامين ويتحدث عن مأمون بطريقه جعلتنى اتمنى مقابلته .
واقابل عبد المنعم عدة مرات واسأله عن صديقه مأمون ولكن حضوره للسودان كان عادةً فى الصيف وانا كنت احب الحضور فى الشتاء .
وتأتى الانقاذ ولم اتقابل مع عبد المنعم الا عرضياً , خاصه بعد ان صار سفيراً . وبدأ فى الدفاع عن الانقاذ بحراره وصدق . ساخراً من الديمقراطيه التى لا تناسب السودانيين لانها تعنى الفوضى . وان الحريه لا تناسبهم . وان الانقاذ قد اسدت لهم خدمه لانها جعلتهم ينفضون الخماله والكسل والاتكال واضاعه الوقت فى النقاش والسفسطه الفارغه . وبدأت اتجنبه .
اضطررت للاتصال بعبد المنعم , لان احد معارفى احتاج الى خدمه فى السفاره . ورحب بى عبد المنعم بحراره . وسألته عن صديقه مأمون الذى عشقته بالسماع . فانهمرت دموع السفير الذى كنت اصنفه فى خانه البشر اللذين لا يظهرون شعورهم .
مأمون اشترى مزرعه ليحولها لمسكن . واراد احد رجال الانقاذ شرائها منه لانها تقع فى ركن من المساحه الشاسعه التى شيد فيها قصره . فطلب من مأمون ان يحدد سعره .عندما رفض مأمون قام رجل الدوله بتهديده . ورد مأمون كان الصفع والركل .
التقارير الرسميه ذكرت ان مأمون وجد مقتولاً لان بعض اللصوص حاولوا السطو على مسكنه فى المزرعه . وعندما قاومهم اطلقوا عليه النار .
حتى عبد المنعم كان يقول ان اللصوص هم رجال الامن . وشرح لى كيف ان ( اللمين ) الرجل القوى كان يحثو رأسه بالتراب كالنساء ويتمرغ على الارض , فلقد ترك مأمون قبل ساعات من اغتياله . والمسؤل انتقل الى ماليزيا .
انتهت ......
شوقى .......