عرض مشاركة واحدة
قديم 20-10-2011, 05:57 PM   #[40]
imported_فيصل سعد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية imported_فيصل سعد
 
افتراضي

قراءة في ( كتاب ملامح من تاريخ الأدب السوداني ) للأستاذ/ على المك
بقلم: الدكتور/ تاج السر الحسن



"لكي لا يظلم هذا الأدب السوداني" (علي المك)

كتب الكثيرون عن الأدب السوداني كنماذج القصة فيه، وتاريخها، وتطورها منذ الثلاثينات... كما ألفت الكثير من الكتب عن الشعر السوداني .. وتناول النقاد الكثير من نماذجه، وأطالوا في تحليلها، وعرضها خلال التطور التاريخي الأدبي الذي مرت به الأمة السودانية. تحضرني في هذا المجال أسماء لنقاد كبار لهم مكانتهم في خارطة الأدب العربي الحديث، على رأسهم أساتذة لنا كبار: الدكتور أحسان عباس، الدكتور محمد النويهي، الدكتور عبد المجيد عابدين، الدكتور محمد إبراهيم الشوش، وشباب من الجيل الجديد من النقاد منهم الأستاذ عبد الهادي الصديق، وفضيلي جماع، وآخرون كثيرون.

ولكنهم جميعاً تناولوا جوانب محدودة بعينها في الشعر والقصة، وتاريخ الصحافة الأدبية... الخ.. ولم يتصد ناقد منهم لقضية تاريخ الأدب السوداني في مجملها - أي تقويم هذا الأدب بشكل عام، نثره وشعره، الرواية فيه، والقصة القصيرة، والنقد الخ.. ومثل هذه الأدوار مهمة لنهضة الأدب ومسيرته التاريخية، فنقاد كبار اشتهروا في تاريخ بلادهم بهذا الدور الطليعي الرائد، وكان لأعمالهم وتقويمهم لأدب بلادهم، دور كبير في نهضة تلك الآداب وازدهارها، أمثال أولئك في الأدب الإنساني تبرز شخصيات بارزة مثل بلينكى الروسي، ليسينج الألماني، وسانت بوف الفرنسي، وطه حسين المصري وغيرهم من الأسماء العظيمة.

ولا شك أن مهمة بهذا الحجم تتصدى لتقديم الآداب القومية، وتحديد مكانتها من التاريخ الحديث، تعد من المهام الشاقة الصعبة في التاريخ الأدبي، وقد تقدم أديبنا الرائد على المك، في القيام بتلك المسئولية.

فكتاب (ملامح من تاريخ الأدب السوداني) هو المبادرة الأولى المتميزة والرائدة في هذا الاتجاه، وهي دون شك اللبنة الجادة في اكتشاف صرح الأدب السوداني، وإزالة الركام عنه، وتوضيح جوانبه ولبناته الرائدة، ولعل أول ما يلفت نظرنا إلى تلك الكلمات المؤثرة التي وردت في تصدير الطبيعة الثانية للكتاب، وقد صدر الكتاب لأول مرة في عام 1975م .. حين يقول على المك:
(تعددت المدارس والمذاهب الأدبية في السودان، وجاء إلى دنياه أدباء من الشباب بعضهم ينفرد في الأسلوب والموضع لا يمكن تجاهله بحال.. ولقد أمكن لي أن أنتخب من أعمالهم طرفاً؛ ورغما عن هذا، فأني اشعر إني مقصر شيئا .. وبناءا على ذلك فأني أرى: أن الأوفق مستقبلا، ولكي لا نظلم هذا الأدب السوداني، أن تكون المختارات في أجزاء، فتشمل الكثير مما يستحق النظر والتأمل، أو ربما كان الصواب أن تصدر مجموعات للشعر السوداني، والقصة القصيرة ... وقد تسنح ظروفك لمثل هذا العمل، إن أتاح الزمان وقتا للبحث والاستقصاء والتأمل .. وعلى كل حال، فأن الباب مفتوح جدا للمشتغلين بالآداب، والمهتمين بها للنهوض بمثل هذا العبء ، وهو من بعد جسيم).

بهذه المقولة تبدى علي المك كناقد قومي، لم يقتصر دوره على نقد الجزئيات كما يفعل النقاد العاديون، لكنه انطلق من منهج شامل يشعرنا بدوره الطليعي في اكتشاف المرحلة الجديدة التي حققها تطور الأدب السوداني المواكب للعصر في مطالع الخمسينات، والتي رأى علي المك من خلالها كيف يرتفع جيل الرواد، الذين وصفهم (بالانفراد في الأسلوب والموضوع)، والذين قال عنهم أنهم خرجوا من خنادق الحرب العالمية الثانية، على التجربة الإنسانية الجديدة في آداب العالم الآخر، شرقه وغربه.

وفي نظرة الناقد القومي علي المك الشاملة للأدب السوداني، يخشى علي المك أن يظلم أدباء آخرين واتجاهات أخرى غير جماعة الخمسينات هذه... فاستدرك في مقدمته الرابعة حين تذكر: أن هناك شعراء آخرون ومدارس أخرى أنتجها الأدب السوداني قبل مراحل الخمسينيات.. وظهرت أمامه مرحلة الثلاثينات ، فإلى كلمته المؤثرة المعبرة، التي لا تسمعها إلا من الوالد الشفوق.. قال: ( لكي لا نظلم هذا الأدب السوداني) وبعدها رسم البرنامج لتوثيق ولتحديد هذا الأدب، هذا الواجب الذي يتعين على جيلنا القيام به: والذي وضعه علي المك في هذه المقدمة.. أن تصدر مختارات هذا الأدب السوداني في أجزاء، لابد في نظري أن تكون تلك الأجزاء جمعا وتحقيقا وتوثيقا وتحليلا للأدب السوداني في مراحله المختلفة، والتي تصورها علي المك، بل ووضع معالمها في كتابه (ملامح من تاريخ الأدب السوداني). لتأكيد فكرته، ذهب الناقد القومي علي المك إلى تحديد مقترحه هذا في إصدار مجموعات أدبية للشعر السوداني، وأخرى للنثر بالتفاصيل التي جاءت الإشارة إليها في كتابه (ملامح من تاريخ الأدب السوداني).

عاد الناقد علي المك في الطبقة التالية للكتاب، لمرحلة الثلاثينات التي لم يتوقف عندها كثيرا في (المقدمة الثالثة)، فقد كرس الأخيرة لجيل الخمسينات الذي لاقى الكثيرمن الإهمال والعنت.

في مقدمة الكتاب الرابعة يشير علي المك إلى أشخاص لم يتح له ذكرهم، وإن ورد إبداعهم في الكتاب، كالأستاذ الأديب السوداني عبد الله رجب، في كتابه (مذكرات أغبش)، الذي أورد منه نموذجا في كتابه؛ ويعقد المقارنة بين ما كتبه عبد الله رجب وطريقته في السرد والكتابة بالطريقة التي ألف بها ماكسيم جوركي سيرة حياته. وتشير المقدمة إلى تحليل وتقويم إنتاج أدباء الثلاثينات، فتذكر أحمد يوسف هاشم، ومحمد عشري الصديق، وما أدته مجلتا (الفجر والنهضة) من دور مشهود في تطوير الأدب السوداني في كل المراحل؛ ثم يعود إلى معاوية محمد نور، ودوره البارز في الصحافة المصرية الشقيقة، ويبرز مدى اطلاعه العميق على الأدب الأوروبي، في منابعه الأساسية.. الروسية، الإنجليزية، واللاتينية. لا ينسى الناقد القومي علي المك الشعر السوداني، والتطور الكبير الذي شهده على يد التيجاني يوسف بشير، ومحمد أحمد المحجوب، وغيرهم (الوقفة مع هؤلاء في الكتب، بعرض نماذج من أعمالهم).

لم ينس على المك أن يستعرض ذلك الدور الرائد الذي لعبته (كلية غردون التذكارية). يبدو لنا نحن جيل الخمسينات هذا الأمر غريبا، لما رأيناه من تناقض المستعمر البريطاني .. وأن الذي نعرفه عن (اللورد غردون) هو أنه واحد من سدنة وقادة الاستعمار والإمبراطورية البريطانية... ولكن الذي ما يزال يدهشنا حتى الآن: هو كيف أتيح لمدرسة مثل هذه أن تقوم بدور إيجابي وتسهم في بناء عناصر من الثقافة القومية، يكون لها الدور الإيجابي في المستقبل بالمشاركة في بناء الأدب القومي السوداني؟

أسئلة كثيرة تطرح نفسها، ألعب الجزء المضيء من الشعب البريطاني دورا في ذلك؟ فقد قيل لنا إن كلية غردون بنيت بمساهمة من أهل بريطانيا، وليس الشعب البريطاني كله مستعمر، أليس كذلك؟ أم أن الأمر راجع للغة الانجليزية العظيمة التي عرفها السودانيون معرفة أهلها لها، فقد عرفوا الأعمال الإنسانية العظيمة في الأدب الإنجليزي، وحركات التنوير مثل الثورة الفرنسية ودورها المشهود في التاريخ الإنساني، أسئلة نطرحها لعلنا نجد الإجابة عليها.

يلقي علي المك مزيدا من الضوء على هذه الكلية مشيرا إلى ما قاله أحد رواد النهضة الأدبية، عرفات محمد عبدالله عنها (أنا واحد من زملائي الكثيرين الذين تلقوا تعليمهم ثانويا في كلية غردون (التذكارية) وقد درسنا مع ما درسنا: اللغة الإنجليزية واللغة العربية، ووعينا قواعد هاتين اللغتين وعيا سليماً، وكذلك النحو والإعراب والصرف، والبلاغة بفروعها ...

أما المحجوب فيشير: إلى أن حركة التثقيف قد فتحت عيونهم على النقص الثقافي المتفشي في بلادهم، فأخذوا بتلابيبه في أنفسهم أولا.. وها هم قد بدأوا يشخصون الداء لغيرهم، وأخذوا يقدرون مطالب هذه الفترة، فترة الانتقال، وما تحتاجه من هدم وبناء ، ومن حفاظ على الأخلاق والعقائد، وقد (اتخذوا لكل شيء أهبة ، وحملوا المعمول والفأس يهدمون البائد المتداعي، ويقطعون الأعشاب والطفيليات من النباتات، ليضعوا الأساس للنهضة المقبلة) (المحجوب).

يقول الناقد على المك : كان المحجوب يتسم في أدبه بالأصالة الفنية، مما كان يحاول من صياغة جديدة، تجمع بين فصاحة اللغة العربية، وترسل اللغة الانجليزية. أما الأصالة الفكرية، ففي ما كان يلتمسه من المثل العليا لمجتمعه السوداني الناشئ في الأدب والسياسة والفن.

أما في مجال نظرية الأدب ومصطلحاته، فقد تميز الناقد القومي علي المك، بحس دقيق ووعي فني لا يتأثر بالتيارات العارضة، من الثقافات الأخرى، فهو يقول: (أنا لا أرفض هذه المدارس الفنية في الأدب، ولكننا نرى أن لا نعتمد عليها وحدها... ذلك أنها تحصر الكاتب في إطار محدود). وليؤكد الناقد هذا الحكم، ضرب لنا مثلا حين قال: ( فلو أنك نظرت في قصيدة عبدالله الطيب: (الكأس التي تحطمت) لجاز لك أن تضعها في ما يسمى بالشعر الحديث، في موضعها وفي مذهبها (تحاشى علي أن يقول إنها رومانتيكية)، خوفاَ من الانزلاق في استخدام مصطلح أجنبي، قد لا يكون دقيقا في وصف هذه الحالة. يواصل علي: (حتى التي نظمها بعد القصيدة تلك ( بنيف وعشرين سنة)، وجدت الاختلاف بينهما ينأى بالشاعر أن يعد في مدرسة الشعر الحديث .

هكذا حاول الناقد علي المك أن يقنعنا بخطورة استخدام المصطلحات الأدبية الحديثة على عواهنها، وإطلاقها دون تحفظ أو حذر.

هل قصيدة (سمرقند) ... من الشعر الحديث أو القديم؟... قد لا نتفق مع ما ذهب إليه الصديق الراحل علي المك، وهذا ما نأمل أن تتاح لنا الظروف لتوضيحه في مقالة قادمة. وأخيرا يظل كتاب (ملامح من تاريخ الأدب السوداني) مشروع نواة لعمل أدبي كبير، يبدأ بتدوين مجموعات الشعر السوداني، والقصص السودانية، والنقد، في مجلدات تشمل دراستها وتحليلها وترتيبها الترتيب التاريخي المعروف. إنه المشروع القومي الأدبي الكبير الذي طرحه علينا الأستاذ الرائد علي المك .. هذا المشروع الذي كان يحلم علي بالقيام به كما قال: (قد تسمح ظروف لمثل هذا العمل، إن أتاح لنا الزمان وقتاً للبحث والاستقصاء والتأمل) . لم يتح لك الزمان ذلك ياصديقي !! ولكنك تقول ايضا: (على كان فأن الباب مفتوح للمشتغلين بالآداب، والمهتمين بها للنهوض بمثل هذا العبء وهو بعد جسيم ). العبء جسيم، هل تسمعونها ؟ إنها كلمات علي المك ..



التوقيع:
[frame="5 80"]اللهم اغفر لعبدك خالد الحاج و تغمده بواسع رحمتك..

سيبقى رغم سجن الموت
غير محدود الاقامة
[/frame]
imported_فيصل سعد غير متصل