تراجيديا المقاطيع
معاوية محمد الحسن
1 مشهد الصي:
العمامة علي رأسه مكورة للإمام قليلا و الوجه ينضح بالعزيمة المعقودة أبدا فوق الجبين و ساعة قفز إلي ظهر العربة أبصر الناس السكين في غمدها ترقد تحت إبطه الأيسر له في الناس ( شنة و رنة) و صليل جرس حديثه في المجالس كان عظيما بحق . غرس سيدة نساء ( المطمورة ) سكينة بت محمدين تلك المرأة ذات الشكيمة كريمة المنبت و الخصال .
زمان قال أقرانه عنه :
- الحسن رباية الحروم .
لكنه شب عن الطوق, رافعا الرأس مزهوا يمشي بين الناس كأن يا دنيا ما فيك سوي الحسن ود ابراهيم جراب الرأي و قدح الضيفان .
السماء القائمة فوقهم متجهمة عابسة , برقها خلب و سحابها كذوب لو أنهم أصابوا كبدها بسهم ما همي عليهم من المطر شيئا . نفقت الماشية و يبس الزرع . تتذكر جدتي سنة ( ام لحم ) فتقول :
- جدك كان عندو مطمورة يكيل العيش للناس بالمجان يجوهو الخلق و العالمين من صعيد و سافل يأكلوا و يشربوا و يصدوا لأهاليهم و سموهو ( مطمورة الخلاء ) .
تضاريس وجهها أشبه بواد قاحل و مجدب لكنها تفيض بالحنان . تقوم تفتح( السحارة ) كأنها تبحث عن شيء و لا تعثر عليه . لها دون الناس حكمة الزمان كله و حبال الصبر الطويلة .
ترجف قليلا حين تقوم . تتأمل الفراغ و ذاك الحزن المخيم علي وجه البلدة . صي طويل و عريض و بؤس لا متناه . تعبر أسراب الطيور كل يوم لكن السمبر لا يظهر في الأفق أبدا .
تقول جدتي أنها زارت احدي العرافات يوما في بلاد السافل فأخبرتها أن العام الذي يلي عامها ذاك سيولد فيه طفل شقي يجلب القحط للبلدة يوما ما .
حين أطلق صرخة الميلاد كان ابوه يلفظ أخر الأنفاس . مات و اوصي بأن يسمي المولود ( الحسن )
قالت جدتي :
جاءه سيدي الحسن في المنام قال ليهو :
- قوم يا الفنجري شمر ضراعك الحق الرجال فاتوك .
-- شقيش يا سيدي اب جلابية
- ماك شايفهم في القبة ام منارا ضاوي ؟
ثم اعطاه شرابا حسا منه حسوات فإذا بالناس يبصرونه معلقا علي ابواب قبر الرسول يبكي . عشرون عاما خلت حتى ظهر فيهم يوما حين كانت ريح الخريف تصك الأبواب . جاء علي فرسه و الرمح في يمينه, فعل عادته في الايام الخوال حين كان يذهب لصيد النمور و المرافعين , الشارب الكث و ملامح الوجه الصخرية . وقف امام دارها و هدر :
- المطمورة بدور البملاها يا ناس .
قيل أبصره صبية الحي فعدوا خلف حصانه قبل ان يبتلعه الفراغ و قيل ان سكينة بت محمدين أخذت تعدو حافية القدمين و تتوسل اليه ان يتمهل قليلا لكنه كان قد غاص في السراب .
قالت جدتي :
- جاء وحاة الله و سيدي الرسول و وقف فوقي . استغفر الله يا ناس. ابراهيم وليدي بي زاتو و صفاتو جلابيتو البيضاء تلصف في الضلام وكتين عيني وقعت فوق عينو بكي و قال ليا قولي لي ناس الفريق يملوا المطمورة .
عشرون سنة لاحقا و اكفهرت السماء , يبس الزرع و جف الضرع و قضم الخلق جلود البهائم و كان الجميع يهيمون بإبصارهم جهة المشرق يترقبون برق ( القبلي ) ومربط العجيل هناك حيث يشيل المطر فتهمي السماء و تعبر اسراب ( السمبر ) بأصواتها المألوفة و كان ثمة صبية في ذاك اليوم يتعفرون بالسراب حين أفلت الشمس و لم تعبر الطيور حينها أبصروا جهة السافل نجما قصيا لا يطلع إلا في الليالي المطيرة , تجادلوا كثيرا و رجعوا نحو بيوت تلوك الصبر و هي في الأنين غارقة .
طالع الحسن ود ابراهيم وجه أمه في ذاك اليوم مثل مسافر في متاهة يتابع تضاريس طريق لا نهاية لها و كان قد أخبر عن مخاوفه بشأن حديث العرافة في زمان غابر .
أشاحت بوجهها و تذكرت حين قدمت من مضارب الحلب في جهة بعيدة حين كانت تزور ضريح الشيخ (حمد تور الخلاء ) فقال لها حوار الضريح أنها كانت قد وطئت جسد أحد اطفال الجان و هي لا تدري و الجان شرير و منتقم شديد العداوة لبني أدم .
ساعتئذ كانت حبلي بالحسن , ترقص العفاريت داخلها و هي تتلوي من الألم , ثلاثة ايام و هي لا تذوق طعم النوم . اخذوها للعرافة في جهات البحر , ستة أيام و هم يغذون السير الي هناك .
قالت العرافة :
- الاسياد بدورو حقهم .
انتزعت النسوة قرطها الذهبي و قدموه للعرافة ثم جيء بديك أحمر فذبح و جعل دمه علي عتبة البيت . تتذكر كيف جاءتها الام الطلق و الولادة بعد ذلك حين كان ( ابراهيم مطمورة الخلاء ) يتلوى من الالم أثر لذعة ثعبان .ساعة انطلقت صيحة المولود كان أبوه قد فارق الحياة .
*****
و لذلك فكثيرا ما يسأل نفسه عن معني الموت و الحياة و ذات يوم قالت له احدي العرافات :
- زمان جان و ركبك يا ولد .
يعدو الي اقصي مضارب الأحامدة ثم يذرع الصحراء حتى جهات الكبابيش و الحمر . جمله الاصهب له هدير الرعدحين يصول في الفلوات و يجول . في خاطره صبية من عرب الرزيقات غرست سهمها في قلبه ثم أنسلت يقال لها ( ام ديس ) شعرها اعشاب النيل المنسدلة علي كتف الشاطيء و عيناها مثل عيني الجدي النافر .
-2-
مشهد الضريح :
حين أوغلت عربة الهوستن في الفراغ كانوا قد رفعوا رؤوسهم في وقت واحد معا ناحية السماء متأملين وجومها و صرامتها و كانت الشمس حينها قد أخذت مكانها وسط السماء كأنها بركان العذاب المتفجر أبدا . زمان ظهر فيهم قوم ملتحين ذوي جلود ملساء و وجوه ناعمة لم تلهبها شمس الصحراء ,جاءوا ديارهم قاصدين بناء مسجد و قالوا بأنهم مبعوثون من قبل الحكومة فتصدي لهم الحسن ود ابراهيم و صرخ فيهم :
- أسمعوا يا ناس من يومنا قايمين بي فروضنا و حافظين عروضنا هسي وكت الجوع قرض الناس جايين تبنوا لنا الجوامع؟
اعترضوا سبيل الرجال و كادوا أن يفتكوا بهم لولا أن رجال البعثة الدينية كانوا قد فروا مذعورين من حيث أتوا . بطون الصبية المتجمهرين حول دائرة الفرجة الكبيرة في ذاك النهار بدت منتفخة و لكنه انتفاخ الجوع و ليس التخمة . حدثت سكينة عن مخاوفها ذلك المساء فقالت للحسن :
- الحكومة ما بتسكت و أخاف تتدرعك و تبقي في رقبتك.
تعبر أسراب الطيور كل يوم لكن السمبر لا يكاد يظهر حتي أنهم يئسوا من مجيء المطر و التمسوا البركة عند الشيخ حمد تور الخلاء . في الضريح القائم تحت شجرة الدوم الكبيرة ثمة أعلام بالوان مختلفة حمراء و صفراء و خضراء ترفرف أعلي سارية المكان و الحيطان الطينية فعل بها الزمن الافاعيل . أشجار الكتر و الهشاب حول المكان تتحدي إرادة الصحراء في قوة و ثبات .
ذاك اليوم و هم مجتمعون عند الضريح يوفون بنذورهم و ثب قائلا لهم :
- الجوع كمل الخلق و العيش عند الحكومة.
أنتدبوا الحسن ود ابراهيم للمهمة و قالوا عنه راجل ود رجال ,جراب الرأي و قدح الضيفان .يمشي لي ناس الحكومة ,فصيح لسان و ما بخبر النضم الخمجان .
انتصف النهار و ما لاحت في الأفق سحابة . تقدمهم رجل كفيف في صلاة الاستسقاء و لاذت النسوة بالبيوت من حر الشمس .
-3-
مشهد مهرجان الحلب :
ثلة منهم شهدوا سباق الحمير الذي نظمه الحلب ذاك الضحي حين كانت النسوة يوزعن قدور الذرة المسلوقة علي الصبية الذين تختطفوا الطعام من ايدي النساء كما تتخطف السباع الجائعة الفريسة .
تقدم جحش (الحسن) السباق فهللت جمهرة المتفرجين . جحش كأنه الحمار الوحشي ,ضامر الحشا و ممتليء الارداف ,يحاكي البرق في السرعة .والدته من جهات الحلب .اولئك القوم يجلبون أجود الحمير ,يجوبون البلاد من أقصاها لادناها علي ظهور الحمير و البغال عارضين بضاعتهم من الأواني المنزلية . في ذاك اليوم كانوا قد نزلوا عند شجرة الطلح الكبيرة القائمة عند مدخل القرية حين أبصرهم الصبية فعدوا نحوهم .
أنتظم المهرجان قرية المقاطيع منذ غبشة الصباح و حتي أفول الشمس في الافق الغربي. كان الحلب الوافدين عبارة عن خمس نساء و اربعة صبيان و رجل , اجش الصوت ,كثيف شعر الصدر تخطي الاربعين بقليل.احالت الشمس الحارقة جلودهم البيضاء الي اللون الاحمر الداكن . أول ما انزلوا بضاعتهم علي الارض شرعوا في نصب الخيمة الكبيرة تحت الشجرة ثم أشعلوا النيران تحت قدور الطعام و بينما أخذ الصبية يعلفون الحمير كان كبير الحلب قد انهمك بقص شعر احد الحمير و جلس بعدها يهيء النار للحديد . تجمهر صبية القرية و أخذوا يبحلقون في الفؤوس و السكاكين و أنية الشاي و القهوة المصنوعة من الالمونيم . في البداية كانوا قد عقدوا حبلا طويلا عند شجرة الطلح الكبيرة ثم أوصلوه بشجرة الحراز القائمة عند ضريح الشيخ حمد تور الخلاء . ركضت الحمير في ذاك الضحي و كانت متوترة في باديء الأمر .يذكر المقاطيع كيف أن حمير الحلب كانت تفوز بالسباق في يسر و أن الحمار الوحيد الذي كان قد كسب الرهان ربما لمرة واحدة هو حمار الحسن ود ابراهيم مطمورة الخلاء و يذكرون أيضا أنه مع نهاية وقت الأصيل كانت بضاعة الحلب ايضا قد نفدت بالكامل .سكينة بت محمدين لم تكن قد أبتاعت غير أناء من الصيني نقش عليه رسم لفتاة حلوة بيضاء ذات ضفائر طويلة . الصبية انتشروا ذلك اليوم علي طول الطرقات ,مبتهجين مسرورين .اكلوا النبق و القنقليس و الفول المدمس .بعضهم أشتري حلوي القطن و مزامير صنعت من القصب .
عند أفول الشمس كان الحلب قد شرعوا في حزم أمتعتهم استعدادا للرحيل بينما أخذ بعض الصبية يتصايحون بهم :
-الحلبي حلاب التيس ..طلق مرتو بي ضهر البيت.
استشاظ كبيرهم غضبا و برزت سنه الذهبية حين بصق في وجوههم لاعنا و قام الحسن ود ابراهيم يزود عن القوم محاولا فض جمع الصبيان .
في ذاك الحين كانت سكينة بت محمدين تعقد امرا ما مع العرافة بينما انكب بعض الناس يجمعون مخلفات الحلب
-4-
مشهد الخرابة :
القمر طالع و مكتمل في المحاق الثاني و كانوا يصرخون في وجه الحسن :
- أدخل في الخرابة و أمرق لنا الداهية دي.
أخبرتهم العرافة أن ثمة قلادة عقد عليها ملك الجان سحرا ثم القي بها في الخرابة الموجودة بالقرب من ضريح الشيخ حمد و ذلك انتقاما لأجل احد ابناء الجان الذي كانت سكينة بت محمدين قد وطئته يوما ما و لذلك حل الجفاف و المحل بالمكان كله . لم يكن الحسن ود ابراهيم مقتنعا بالمسألة لكنهم كانوا قد عقدوا الرأي و الأمر . يدخل الحسن و يخرج السحر و لكن الخرابة مليئة بالعفاريت .يسمعونها تزمجر في الداخل مثل زمجرة الريح في جوف الشجر . قال الحسن :
- العيش عند الحكومة و ماني خابرلكم صرفة غيرها.
صفير الرياح في قعر الفلاة يقرع مكامن الفزع .ينظرون للحسن و تهمهم العرافة بكلمات السحر و الذعر يستولي عليه و الرجال يحدقون في فضاء الخرابة .
****************
حين عاودته الحمي ذاك النهار أثر اشتغال العفاريت في بدنه كانت سكينة تحرق البخور و تمتم بالتعاويذ .
انقضي شهر كامل علي حادثة الخرابة و ما اجدت محاولة الحسن لانتزاع الشر من جوفها نفعا فالأرض ما تزال قاحلة و السماء تمسك مااءها عن الناس ,كانوا في كل يوم يسيرون خلف نعش جديد و جثث الحيوانات و السوام تملأ الرحب .
في ذاك النهار اجتمعوا عند الضريح و صاح بهم الحسن :
- الجوع قرض الخلق و العيش عند الحكومة يا ناس.
و هكذا قرروا انتدابه للمهمة .
-5-
مشهد أخير :
أثارت العربة خلفها سحابة من الغبار ربضت فوق هامات البيوت ثم راحت الأعين المبثوثة في فضاء المكان تبحلق في الفراغ حيث تلاشي جسد العربة حينها عاودت سكينة لحظات الآسي و كان حزنها لا يعرف السكينة ألا أنها بحلقت في عيون القوم ثم أنخرطت في الدعاء لأجل أبنها.
بعد رحيل الحسن بوقت طويل كانت هنالك ثمة مركبات ذات احجام مختلفة تذرع بلاد المقاطيع طولا و عرضا و هي توزع دقيق القمح و الذرة و زيت الطعام و اللبن المجفف علي الاهالي و كان ثمة علم ذو خطوط عريضة و أنجم كثيرة مطبوعا علي تلك العبوات من الطعام و قد خطت أسفله عبارات بلغة غريبة و شوهد أطفال المقاطيع يستخدمون تلك العلب الفارغة المخصصة لزيت الطعام و اللبن المجفف في العابهم حين كانوا يصنعون منها سيوفا يبارزون بها أطفال الحلب أوان عودتهم للقرية في وقت لاحق.
.
·