كيمو الشيوعي:
كانت جدران المنازل بالحي صباح أحد الأيام مليئة بشعارات وإدانات للحكومة بخط أحمر عريض .. (يسقط جعفر نميري) ، (لا للدكتاتورية) ، (عاش نضال الشعب السوداني) ...
وجوه غريبة تظهر لأول مرة في الحي وبعض الشباب يقف بعيدا يتفرج بحذر والكل يشير لتلك الوجوه بأنهم "أمن" ... الحاجة بتول تشتم بصوت مرتفع : الله يقلع الشيوعيين ما لقوا غير حيطتي دي يكتبوا فيها يسعلني الله كلفتني 200 جنيه " بوماستك" ...
تقف عربة بوكس بدون نمرة ينزل منها شابان يحملان علبة بوهية وفرشاة يغطون الكتابة بشخبطات جعلت منظر الحائط كأحد رسومات "سلفادور دالي" ولم يجدي صريخ الحاجة بتول نفعا مع تلك الوجوه الصارمة والتي تتعامل بمكنيكية تخلو من أي لمسة إنسانية.. وإنتهار للجمهرة : يلا كلو زول يمش في حالو.
كان كيمو يعاني من صداع عنيف جراء سهرة الأمس في بيت مريوم وقد ضايقه رائحة "العرقي " العابقة في الغرفة وفي ثيابه.. ضخم الجثة له لحية غير مهذبة فارع الطول أشبه بمايك تايسون.
سمع كيمو الضجيج فخرج يتشمم الخبر ولم يجد خيرا من "فاطمة زهرة" فعندها الخبر اليقين.
يا حاجة فاطنة في شنو؟
الشيوعيين يا ولدي كتبوا في الحيط وشتموا الحكومة، والحتة مكهربة كلها أمن وهم ياها فلاحتهم يسقط فلان ويعيش فلان. أمش نوم نومك لا تجيبلك مصيبة لي رقبتك.
كيمو إنسان يهوي العراكات ويسميه أهل الحي كيمو حفلة لأنه مشهور "بفرتقة الحفلات" .. دائمآ ما تجده في "الفارغات" يمتلئ جسمه ووجهه علي الخصوص بكمية من الجروح القديمة تركت أثار لن تمحوها الأيام.
يتحدث في كل شيء ويعرف كل شيء بدءا من ثقب الأوزون وحتى الأطباق الطائرة.. يحفظ كمية من المصطلحات يحشرها حشرا في غير ما مكانها..
كان يوما غير عادي وقد انتقلت الحكاية من لسان إلي لسان ومن شخصا إلي آخر كل يضيف إليها حتى صارت كالاسطورة اليونانية.
أقبل المساء . والمكان يعج بتلك الوجوه الغريبة يظنون أنهم لا يلفتون الأنظار بالوقوف أما كشك العم عبد الوهاب وبوابة نادي الأسرة.
اثنين من الشباب الشيوعيين يحملون شنطة "سامسونايت قديمة" بها منشورات يخرجون من ساحة البرهانية شمال النادي وهم يتلفتون.. فجأ تقف عربة بوكس بالقرب منهم فيلوذون بالفرار.. ينزل شخصان من البوكس ويجرون خلفهم.. كان كيمو يقف أما م داره المواجه الحائط الغربي للنادي يرمي أحد الشباب بالشنطة أما م كيمو فيرفعها الأخير محاولآ فتحها.
يقف أمامه فجأة شابان ويسألانه :
يا شاب الشنطة دي بتاعتك؟
كيمو: أيوة حقتي في شنو.
يا زول إنت متأكد الشنطة دي حقتك؟
كيمو: يا زول إنت أطرش ولا شنو قلت ليك الشنطة حقتي.
تقف العربة البوكس بجوارهم ويخرج أحد الرجلين بطاقة يشير بها لكيمو المسكين قائلآ :
يا زول نحن في الأمن ممكن الشنطة ؟
يمد كيمو الشنطة ووجه يمتلئ بتعبير خليط بين الرعب والحيرة والبراءة.
يفتح الرجل الشنطة المهترئة ولم تكن تحتاج لأي جهد كبير، أعداد مصورة من جريدة الميدان ومنشورات إدانة للحكومة تسقط من الشنطة علي الأرض.
يتراجع كيمو وهو يتلفت نحو باب المنزل فيمسك أحد الرجلين يده ويخرج "مسدس" يا زول ماشي وين؟
إنت حا تمش معانا مشوار صغير .
فكر كيمو للحظة بالنكران ولكن تجمع بعض الشباب جعله يستمسك بشخصيته المعاندة ويلزم الصمت..
تحركت العربة البوكس تحمل كيمو إلي مكان مجهول..
إنتقل الخبر كالنار في الهشيم والكل يتحدث عن كيمو (الشيوعي) وكيف أن الأمن قد هاجم منزله وقبض عليه وبدأت الروايات تتعدد.. من يقول أنهم وجدوا سلاح بالمنزل ومن يقول أن الأمن صادر ماكينات "رونيو" كان كيمو يطبع بها المنشورات.. كانت فاطمة زهرة هي الوحيدة التي تعرف الحقيقة.. ولكن من يستمع إليها.
كيمو من ناحية أخري في موقف لا يحسد عليه.. ربطوا له عينيه بشريط من القماش القطني.. وأدخلوه إلي منزل ليجد نفسه في غرفة ليس فيها من أساس سوي برش مهترئ.. وافترش كيمو الأرض ورأسه الذي يعاني أصلا من الصداع وبقية "سكرة" يتحرك كبندول الساعة...
تركوه نصف يوم ثم بدئوا في التحقيق معه كأن أقصر تحقيق في التأريخ.. يا زول انت بتطبع منشورات وكان السؤال مدعومآ بلطمة علي الوجه؟؟
بدأ كيمو هنا في النكران.. رماه كله دفعة واحدة.. يا جماعة شيوعي شنو وكتابة شنو أنا ما عندي شغلة بالحاجات دي الناس دي رمت الشنطة جنبي وجروا...
كان العسكري يعلم أن كيمو يقول الحقيقة.. ورغم هذا كان يصر علي إلصاقها بكيمو .. ربما أرادوا تأديب الآخرين في الحي في شخص كيمو.. وربما يكونوا قدموه كبشآ للفداء حتي لا يرجعوا لرؤساءهم خالي الوفاض..
في النهاية كان كيمو هو الضحية.. ونال كيمو عدة "علقات" ثم حولوه إلي كوبر..
هذا عالم جديد لكيمو.. أجلسوه في غرفة بها مجموعة من السياسيين.. كان يحس بالغربة بينهم فهم يتحدثون بلغة غريبة عليه.. ولكنه علي كل حال بدأ يستمع.. ثم يسأل وكانوا رحيمين به..
محا كيمو أميته السياسية.. وتعلم الغناء للمعتقلين وهم يغادرون وللقادم منهم.. "فقط لو يجد ليهو كاسين؟؟ كانت تبقي حاجة تمام"...
في الحي بدأ الناس يعتادوا غيابه وماتت حرارة (الشمار) واكتشفوا فوائد لإعتقال كيمو إذ صارت الحفلات تستمر حتي يوقفها البوليس بعيد منتصف الليل.. ولكن بقي أمر واحد .... (( كيمو شيوعي)) ... لا شك في ذلك ....
خرج كيمو شخصية جديدة...كان يوم إطلاق سراحه مناسبة عظيمة "للشمار" في الحي.. الكل يتحدث إليه حتي من كانوا يتحاشونه في السابق...وصار يبتدر حديثه "في الحتة دي" ويدخل مصطلحات جديدة في حديثه مثل " الديلاكتيك" و ينادي الشباب بي "يازميل" بدلآ من "يا مان" .. وخلق كيمو عداوات جديدة وصداقات جديدة فقد أعتبره جعفر الموش كافرآ بالله لا يصلي وبدأ عثمان الأطرش (أنصاري سنة) في الجهاد فيه "كيمو" وذلك في محاولة منه للتقرب لله تعالي في شخص كيمو بإهداءه سواء السبيل..
مرت الأيام... وبعيد الإنتفاضة إتجه كيمو للتدين.. فقد اكتشف فيه فوائد عديدة وصلت قمتها بقيام الإنقاذ.. وصار كيمو الشيوعي من عملا بنك فيصل .. كان في أول دفعة طوعية تدخل الدفاع الشعبي.. ثم تزعم اللجان الشعبية في الحي.. ومن الديلاكتيك تحول الأمر إلي مرابحات ومضاربات.. ووووو وعربات...
شخصان فقط كانا يعلمان الحقيقة... حقيقة كيمو ...
فاطنة زهرة. وكيمو نفسه... فقد كان يعود لشخصته الحقيقة ليلآ يضع "الزجاجة " بالقرب من السرير ولا ينام إلا وهو مخدر.. كل الذي تغير أنه صار ثريآ وأميل للهدوء...
وبقيت مصيبة واحدة لا فكاك منها في الحي... فقد التصق به الاسم (كيمو الشيوعي) .
|