:: كــاتب جديـــد ::
|
حواااااااااا ... داوووووووود
كتابة قديمة ..
تجددت مع الشتاء و القيامة التي قامت فوق رؤوس البيوت الحنينات جنوب الخرطوم .
اللهم فاكمل لنا شتاءنا هذا على خير .
_____
مدخل :
القماري تغني : أحمدو ربكم .. أحمدو ربكم ؛ و هي الطير المبارك الذي لا يجوز صيده أو أكله . بهكذا قالت جدتي , و لا راد لقضاء الله و لا لأحكام " الزلال بت ود حامد " القطعية . جازمةٌ و حاسمة قررت لنا أيضاً أن الضب خصيم الرب , فهو - ما غيره - الذي دلّ الكفار إلى مخبأ النبي ( ص ) في الغار .. إذ راح يشير عليهم بالبحث مُكجكِجاً : ( في القَدّ داك .. في القَدّ داك ) . و لولا الحمامات و العنكبوت - ما عدا الكربة المركبة بالقلبة - لكان العالم ما يزال في ضلالٍ مبين . على أن ذات الحمامات تلك المبروكات يتراقصن هادلاتٍ علي حواف الحيطان : ( أمشي بيت أبوووك .. أمشي بيت أبووك ) فتتشاءم النسوة و يهشنها مشفوعة بلعنات : طيرن تطير عيشتكن . أما القرد « بخيت « فقد سرق مركوب النبي و خبأه تحت مؤخرته , فانسخطت المؤخرة إلى حال الفسخان الوارم ذاك . الكلب عند جدتي سارقٌ للسان التمساح الطويل , فإن أردت ان يتجنبك كلبٌ وقح النباح , فقل له : ( سيد اللسان جاك ) .. فيهرب المنعول , أو فاهزج له : ( كلباً كَلَبكْ .. رباً خلقك .. دنقِر راسك و ارفع ضنبك ) , فيكف عن الهوهوة من فوره .
و أفتت جدتي كذلك أن الجقر يهرب باحثٌ عن حرمه الخائنة « ست النسا « و هو خجِلٌ من صرمحتها مع جَقَرة الحلة , يهرب الجقر - النايم على أضانو ـ إن رددت عليه : ( هوووي يا راكب عينو حمرة و رقبة طويلة .. قول لحاج فاره .. ست النسا شالتا الطيارة ) . ( ما عرفنا الطيارات التونسية التي لا عودة لمن يركبها , إلا منذ زمن قصير , و عرفها قبلنا جقر ) .
حفظت تلك المآثر الخُلّد و اتبعتها في تعاملي اليومي مع تلك المخلوقات التي تقاسمنا الأرض و أنعام الله القليلات , فسار حالي معهن طيباً , و بقينا رفقة حسنة و جيرة تراعي خصوصيات بعضها البعض .
إلا القطط . ما عرفت ماذا أنا فاعلٌ مع القطط .
كن يرعبنني بذاك المواء الطويل الغريب ليلاً . القطط في حيّنا لها امبراطوريتها الكبيرة , و التي تدول دولتها و تبسط نفوذها كلما أرخى المساء على الحي أستار ظلمته , فتلتمع مئات الأعين الصفراء المرعبة فوق الأسقف و بين الأزقة و الكرور المتراكم هنا و هناك , و تحت الأسرّة و عند النوافذ , فوق أسقف السيارات و عند بيوت الجداد و حيثما كانت رائحة زفرة , أو كوشة معبأة بمخلفات قعدات جهابذة الحي , من بقايا سمكِية و كوارع و أم فتفت و بيض . و كان ذاك الكنز من المخلفات ( القعداتية ) متوفراً في عدد من بيوت الحي , أشهرها « جنة الأطفال « . و هو البيت الذي ظل يتوارث سكناه عزابةٌ من أهلي الدناقلة .. أقدمهم و أشهرهم فيه « قدورة « .
« قدورة « أقسم أنه قاصم ظهر « عبدو « و مشوه لوجهه رداً لكرامته المهدرة .
فقد إعتادا على ( القعاد ) سوياً في الشارع أمام بيت العزابة كل ليلة , و بينهما صحن الكوارع و جركانة دائمة من حر عصير التمر الصافي .. ليس بخمج . « عبدو « كان حداداً حريفاً , بينما « قدورة « سائقاً حكومياً محترما . حكى قدورة الواقعة فقال :
الوهم ده قايلني إرنقتنق !! قال لي بيجيني بعدين .. لكن الليلة مسخن شوية و القنزب يللن , قت ليهو ما مشكلة يا أخو , أنا معاي الدوا و العضة , إنت جيب الدغنة و تعال . مشيت أجيب دخاخين من الغالي و نظامات تانية كده و طوالي كبيت راجع الجبل . لقيت الباغة ملحوس نصها يا غان , و الكوارع فاني .. شفت عفانة الفاره ده !! . لما قرصت عليهو قال دي الكديسة , قال شافا بتاكل الكوارع قام هرشا فرتقت . و هو الليلة نظام بطنو غلتانة ما داير سنسنة . شوف المكنة الوهم !! . قول الكديسة أذهلت الكوارع , آمننا بكديسة تعيش ملية صحن كوارع . برضو الكديسة شربت الشوربة و لحست نصيصة الدوا ؟؟ كديسة هي وللا صلاح باكومبا ؟؟ يا أخو الليلة أخش ليك طقطقة كده للفاره ده لمن يعرف حاجة .
القطط مخلوقات كريهة .
كانت تستمر المواءات و الخربشة و التلّيب و الغرغرة و الزمجرة , سيمفونية من الرعب تنتظم الليلة بدءاً من سقوط دولة النهار و حتى استقلالنا بشمس جديدة في الصباح التالي .
كنتُ صغيراً حينها . كثيرٌ ما أبقى الليل بطوله شاتماً كلما فجعتني زمجرة فجائية قريبة صادرة عن عشرات مخلوقات الليل البليدة تلك و هي تسيطر على أسطح المنازل , أو تمارس مطارداتها الصاروخية أرضاً و فوق و تحت الأسرّة , فأقفز شاتماً و انا في وسط فراشي : فسسسسس .. إنعل أبوك , فتنبري أمي من نومها فزعة : يا ولد نوم نومك , الكدايس ديل فيهن بسم الله , إنخمد .. باكر عندك مدرسة . كيف ينوم الولد و هذه المخلوقات المفترسة يمتلئ بها الليل كله ؟ !! .
مخرج :
في مرحلة لاحقة من عمري ظل عظيماً و ملازماً لي مقتي للقطط , أعود في أواخر الليل و رأسي في تُبة مزاجها الحلو العالي .. ممنياً النفس بسرحان و تأمل لذيذ الخدر . و قد كانت السماء جميلة زمانئذٍ , و قريبة حتى ليمكنك رؤية السيدة المرسومة على صفحة القمر جالسة على كرسي تخيط الثياب لأطفال يتقافزون حولها .. سيدة صبورٌ لا شك في جلستها الأبدية تلك . فما كان ينغص عليّ ليلي , و يطير عصافير مزاجي إلا تلك المخلوقات البشعة : القطط .
على ذلك فقد أحببت الكلاب كثيراً , و امتلكت عدد منها طوال سنوات : جيمو / بوبيس / توسكا ( كنت في حالة عشق حاد حين أطلقت عليه ذاك الإسم ) / ريغان / بيبو ...
يصغرني كان شقيقي « وحيد « , و لئيماً لميضاً متمرداً , أصرّ أنه واقع في حب إحدى بنات الحي ( س ) و نحن بعد صبيين نتنسم مراهقة , فجلب قطيطة صغيرة إلى البيت و أطلق عليها اسم ( سوسو ) تدليلاً لاسم حبيبته تلك . القطة عمصاء العينين كانت ذات حظوة عنده , تنام معه و تشاركه الشاي و الرغيفات المغموسات فيه , و يؤثرها بالمغانم من لحيمات ملاح الغدا , و يمعن في المسح عليها و التربيت و التقبيل و المناجاة : شديدة إنتي يا ( سوسو ) ياخ .. أحب شعرك و عيونك ديل يا حقتي !! .. ( و كان تغزله جلفاً دون خيال و لا ذخيرة رومانسية , ما أدى به ليصبح عسكرياً ناجحاً فيما بعد ) .
كنت أبغض تلك القطيطة و أتجنب كل ما يتصل بها , للونها البايخ و عيناها البائستين , و وبرها اللزج حين يلتصق ببناطيلي « الكرمبلين « أو أقمصتي « التريفيرا « فيعلق فيهن .
ظل « وحيد « على حال التعشيق ذاك زمان ليس بقصير . طوراً يتخاصم و حبيبته .. فتنال القطة منه ما تنال من القسوة و السب . و تاراتٍ يستتب بينه و حبيبته الهوى فتهنأ القطة بأيامٍ عسلية . حتى جاءني يومٌ من بعد شهور التربية القططية تلك غاضباً ..
: ( سوسو ) طلعت ضكر .
فزعت أنا .. فقد كانت البنت جميلة و انثى حقيقية بمنحنيات و تكورات و .... , حتى انني كنت « أرازيها « بالإبتسام و الحركات المبطنة كلما تصادفت و إياها .
: إنا لله .. أوع تكون شفت حاجة ؟؟ ..
قلت ذلك و انا أتحسبن من قبح المنظر الذي شطح به خيالي .
: ياخي شفت شنو إنت كمان !! .. قاصد ليك ( سوسو ) الكديسة .
فارتحت من غزله السوقي بعدها , ومن تدليله المفجع لتلك الكديسة . لتتخذ القطة الخائنة مكانها فوق راس البيت من حينها مع صويحباتها , و ذلك تجنباً لكثرة الركل و القذف بما في متناول يد وحيد من براطيش و أحذية , و كبر المهانة التي حاقت بها جزاء فضح ذكورتها .
إحتللت ذات ليلة شتوية سرير أبي في الحوش الجواني , كان غائباً في إحدى أسفاره سائقاً لقطارات سكك حديد السودان , يغيب كان رحمه الله فيها لأيام , ليعود محملاً بجوالات الفحم و الذرة و الشاف و الطلح و القونقليز و سمن و كثير مباهج لنا . سريره ظل طوال فصول الصيف و الشتاء يحتل ذات الموقع تحت الجدار الفاصل بيننا و جارنا « إسماعين البوليس « . أبعدت السرير كثيراً من تحت الحيطة تحسباً لغدر مخلوق مجنون آخر يتخذ من الجدار ذاك منصة للقفز أو الزحف أو التسلق , ثم نمت نومة الديك في الحبل .
حووووووا .. داووووود . حووووووا .. داووووود .
صحوت على ذاك المواء العظيم فوق سطح الغرفة خلف رأسي , فتناومت ثانية و لعنت يومي كعادتي كل ليلة . ليستمر دون توقف ذاك الدويتو بين المخلوقين الغبيين , هو ينادي عليها من فوق راس بيتنا : حووووووووا .. و هي من فوق راس بيت ناس أمونة الملاصق تجيبه : داوووووووووود .
أي غزلٍ هذا الذي تظن تلك الكدايس أنها ممارسته ؟! واحد يقول لحبيبتو حوا , تقوم هي تقول ليهو داوود .... أها و بعد داك ؟؟ .
تعالت المواءات المصوتة العبيطة شيئا فشيئا .. لكنهما ما برحا مكانيهما .
فكرت غاضباً : ماذا لو أن القطط تتكاثر كما النبات .. تكاثراً خضرياً ( أو كديسياً ) !! .. أو حتى لو تتكاثر بالإنقسام .. مثلاً !! أو أي مصيبة تكفينا هذا التناسل الفضائحي . لكان الليل أهدأ و أحلى .
نمت من ملل تلك الحوااااااا داووود .. حوااااااا داووود , و انا مطمئنٌ إلى أن تلك العوارة لا بد منهكةً حلاقيم هذه المخلوقات المتخلفة .. فتنصرف إلى ما يفيد .
في سلام تناومي ذاك , أظن داووداً فاجأ حوا بقفزة بهلوانية حين فاض به , قفزت فزعة على إثرها حوا , ليقفزا معاً في تشابك شرسٍٍ عبيط من أعلى سطح الغرفة مستقرين تماماً فوق جسدي الممدد مستدفئاً تحت البطانية , لأنتفض من هول الواقعة و أهب في منتصف الفراش قافزاً من الصدمة المفاجئة, رامياً مِن عليّ بالبطانية الصوفية الثقيلة مباشرة فوق الدفسيبة معركة أولئك الحوا و الداوود , فعلقتُ أنا وبطانيتي معهما .. و زادت البطانية من تلك الشربكة . دارت رحى حربً شرسة لثواني بيني و البطانية التي أمسكت برجليّ من جهة , و بين حوا و داوود داخلها ( لا علم لي بتفاصيل ما دار بينهما في تلك الثانية تحت البطانية , إلا أنني أرجح انها محاولات فكاك من ورطةٍ ما .. لا غير ) .
كان أن إنكسر حلق سرير الحاج الوالد محصلةً لتلك « الحرب البيولوجية « فائقة السرعة .
في الصباح التالي لاستقلالي من الليل و الحرب و القطط , عرفت ان ذاك الكديس المتهور قليل الخبرات .. لم يكن إلا صاحبنا ( سوسو ) في أولى محاولاته لأن يصبح داووداً .
الدوحة 2007
|