زقــــاق عمــــايا
أزقـــــــــة
(3)
زقــــاق عمــــايا
عبد المنعم الجزولي
خلال ذلك الظلام الأبدي الذي يغلف حياة أغلب أهل الزقاق ، تلمس (ضمرة) طريقه ـ كالعادة ـ إلى حيث توجد الحاجة.
الناس ينادونها ب "حاجة فاطمة" منذ أن وطأت قدماها أرض الزقاق. وقد تقبلت ذلك دون جدال، رغم أن اسمها الحقيقي برتا. كانوا ينادونها برتا. وكان ذلك في زمان ومكان قد غبرا. قرية ما خارج القضارف. وحين انتقلت إلى هذا المكان، بعد موت أمها، ناداها الناس "حاجة فاطمة" ولم يكن في وسعها الاعتراض. وماذا كان عندها من أمرها حتى تعترض؟
ضمرة وحده كان يناديها ب برتا. كان ذلك إشارة منه بحاجته إليها. وحين كان يأتيها صوته كفحيح مضطرب، كانت بغريزتها الأنثوية تعرف تقدير ذاك الفحيح، وتضعه تماما في الموضع المناسب، فتعتدل في جلستها تلك، متحفزة لالتقاط رميته الأولى، والتي غالبا ما تأتى في هيئة لمسة من يده الخشنة على أحد فخذيها، يربت عليهما قليلا، ثم سرعان ما يستدير بكامل هيئته وعتاده، ممكناً نفسه بينهما. وكانت هي دائما هناك لاستقباله.
ـ برتا...
لم تخنها الغريزة.
صوته هذه المرة كان أقل فحيحاً، وأكثر اضطراباً، وأعلى ذبذبةً، واخفض اطمئنانا.ً
صوته هذه المرة كان مبلولاً بقلق من نوع آخر. ولكنها اعتدلت في جلستها تلك استعداداً لاستقباله كالعادة.
ـ أظلمت الدنيا؟
سألته كعادتها، ولكنها لم تتلق الإجابة المعتادة. لم تأتها أية إجابة. وتحفزت، غسلتها رجفة خفيفة وهى تنتظر إشارة منه. طال انتظارها. أرهفت السمع عل حفيفه يرتطم بجدار أذنيها. سكون. فقط سكون. صوت الهواء الغبي ينساب متكاسلاً حاملاً بعض همهمات من هنا أو هناك. راحت تحاول تمييز الأصوات.
هذا صوت جقود الأغلف لابد أنه يتحرش بحمارة أحد زبائن الإنداية. مغرم هو بالحمير! لا يطيق فروج النساء! ضيقة عليه يقول.
جردة الفاجرة، أو جردة ام فرجين، ضبطته يستعمل حمارة أحمد حبيب بائع اللبن. فضحته يومها فضيحة مدوية. كانت في قمة استيائها، وظلت تولول وتصيح فيه ساخرة مرة، ومرة غاضبة، وقد كانت أصوات العصي تنبعث أوان ارتطامها بجسده كأنها صوت طين الزبالة حين يعجنها ولد عبد القادر.
ـ لطط ....لططط....لط.
مبعث غضبها، كما قيل، لأن الرجل رفض مضاجعتها. قال أنه أرادها مرة ثم اكتشف إنها من فجورها لديها مهبلين! فسماها أم فرجين.
الأغلف، كما سمعت من نساء الزقاق، له سلاح نافذ. جميعهن يتمنينه بين أفخاذهن. بعضهن يلمحن بذلك، والبعض يصرحن علناً ودون مواربة. ولكن الرجل ظل، كما يقولون، وفياً لحمير الزبائن.
ـ برتا...
جاءها الصوت فحيحاً خشناً. صوته هذه المرة كأن به سعار. أقرب إلى العواء منه إلى الفحيح المعتاد. أرهفت السمع في انتظار حفيف ثوبه. سكون. أرهفت السمع أكثر.
هذا صوت فكي موسى. يتمتم كعادته
ـ همم....هممم....هم.
فكي موسى لا ينام . ليلا أو نهارا تسمع همهماته. متى يأكل الطعام؟ متى وأين وكيف يقضى حاجته؟ أعمى وأصم وأخرس، وفوق ذلك مشلول اليدين.
فيما مضى كنت تسمع ضحكته، الصوت الوحيد الذي تسمعه بجانب الهمهمة المعتادة. الآن، ومنذ أن اكتشف حقيقة زواجه، اختفت الضحكة، وحلت محلها همهمة أبدية. كان ذلك يوماً عجيباً. ما أن بدأ النوم يداعبها، وكانت تتسمع أصوات الحركة والاحتكاكات المعتادة من جهة مرقد فكي موسى وزوجه، حتى سمعت صياح سكينة بنت الدامر مصحوبا بجلبة عظيمة. وأصوات أقدام وضحكات ولعنات، وصراخ نسوة، وأطفال، كانوا قد هبوا من مراقدهم.
وقد قتلها الفضول، اعتدلت في مجلسها تتسمع. حتى تجمعت لها كل الحكاية، فضحكت حتى سالت عيناها الكليلتان.
ـ استغفر الله العظيم.
قالتها وهى تمسح الدمع بطرف ثوبها، وهى تسمع بنت الدامر تعيد الحكاية مرة تلو المرة.
ـ كنت أشك في الأمر من البداية، والليلة قررت أن أفضحه. انتظرتهما حتى انغمسا تماما فيما يفعلان، ثم أضأت البطارية مباشرة فيهما. وقعت عيني أول ما وقعت على قضيب منتصب. قفز صاحبه كالملدوغ، فرأيت من تحته قضيباً ثانياً منتصباً هو الآخر. فكى موسى المسكين، من عجزه، لم يكن يعلم أنه متزوج من رجل مثله.
ـ برتا ...
كانت نبرة الصوت هذه المرة أكثر علواً وأوسع قلقاً. كان بها شئ من الأنين. ولكن صوت الحفيف الذي طال انتظارها له، لم يأت. ما الذي حدث؟ لابد أن في الأمر شيء ما، شيء مخيف. اقشعر بدنها لمجرد الفكرة. راحت تتسمع في قاق..
ـ هرر....هررر....هر.
التقطت أذناها صوت قطة بلة التكرونى تبعتها نحنحة بلة ثم بصاقه بصوت مرتفع. هو ليس كبقية أهل الزقاق. ليس شحاذاً ينتظر حسنات المؤمنين وفضلات طعامهم. يخرج لفترات طويلة، ثم يعود في هدوء. لا يحس بعودته أحد. هي فقط تعرف ذلك، عندما تسمع وقع أقدامه على الأرض. دائماً تميز الناس من وقع أقدامهم. التكرونى خطوته خفيفة، كالقط. بالكاد تسمعها. وأحياناً لا تعرف بوجوده حتى تبدأ آسيا الحلبية، زوجته، في التأوه بصوتها العالي والذي تتعمد أن تحدث به عن نعمة ربها. فتعرف حينئذ أن الرجل قد عاد إلى مرقده وحلبيته التي قيل أن لون جلدها مثل الحليب.
اجتهد ضمرة كثيراً لكي يقرب لها....معنى الحليب، ولونه! دون فائدة.
لا تذكر قط أن قد ذاقت طعم الحليب يوما.
ـ اللبن نعمة من الله ما يقدر عليها إلا عباده الصالحين.
هكذا حدثها ضمرة ذات يوم حين اشتهت أن تذوق طعم الحليب. وأمنّت هي على قولته تلك، ف حاجة بردية صاحبة الإنداية، لابد وأنها من عباد الله الصالحين حيث تشرب الحليب كل يوم، فيما سمعت من الناس، وان الله قد سخر لها من عباده جنداً يأتونها به، و ... مجاناً. فباعة الحليب، من زبائنها المعتادين.
ـ نشربه في الجنة إن شاء المولى
ـ برتا...
استعاذت بالله من شهقة سمعتها تتلو صوته وهو يناديها. هذه المرة ليست كأي مرة، وهذا الصوت ليس كأي صوت. ليس حتى في يأسه حين تقرصه واحدة من ذلكم النمل والذي يقال انه يأتي من الإنداية.
حمزة الدبيب قال أن نمل الإنداية في حجم أصابع القدم. مدت يدها تلمس أصابع قدمها لتتبين حجم النملات، التي أكد لها الدبيب أنها لا تخشى حتى جند سليمان.
حمزة من المبصرين القلائل في الزقاق. مشلول القدمين. يزحف على الأرض، مستعيناً بيديه وتسمع له كشيشا عند زحفه.
ـ كشش.... كششش.... كش.
أصابه ـ فيما يقال ـ لغم في الجنوب حين كان جندياً. وصرفوا له معاشاً ومالاً ثم تركوه يشرب المريسة ويلعب القمار، حتى انتهى إلى الزقاق، يتسقط فضلات المحسنين. وهو بفضل نعمة البصر يستطيع أن يخرج إلى ما وراء الزقاق. ويعود دائماً بأشياء عجيبة ولكن مذاقها طيب. ومن بعض ما جاء به هذا الثوب الذي تتدثر به من أعين المبصرين، ومن برد الزقاق، الرطب دائما، ربما بفعل المياه التي تغطي أرضه أغلب ساعات السنة.
لم يسألها ثمناً، ولكن لولا وجود ضمرة المستمر إلى جوارها، لقبض الرجل ثمن ثوبه، شاءت أم أبت. فالبرد كافر، والجوع كافر، والله غفور رحيم.
ـ برتا...
هذه المرة انحبست صرخة في حنجرتها، فقد كان الصوت جافاً، بارداً وخاوياً. تبعته حركة ليست كالحفيف المعتاد...كأن شيئاً قد ارتطم بالأرض.
ـ ضمرة...
نادته بصوت خفيض في بادئ الأمر. ثم لما لم تسمع جواباً لندائها، صرخت منادية أولاد الحلال.
ـ ألحقونا يا اخواني.
ثم تلا ذلك أصوات أقدام، وولولة نسوة، وصراخ أطفال. ثم سمعت أحدهم ينطق بالشهادتين. وآخر يستعيذ بالله من غضبه. ثم اختلطت الأصوات وانعجنت في بعضها فلم تكد تميزها إلا لماما.
- غطوه....... يا جماعة
- لا حول ولا قوة........
- الموت ..... والحياة باطلة....
- يارجل... أبعد....هذا عني.... أهذا وقته
- هئ.. هئ..هئ..( ضحكة أم فرجين)
- واء.. .واء... و...( صراخ رضيع من الجوار)
وانفجرت في بكاء مكتوم
هذا الزقاق قد افسد علي رؤيتي للعمايا كضحايا ويستحقون الشفقة
اذكر ان منعم لم ينشره بل وذعه هوم دلفيري..