ماذا سنفعل حين تضع الحرب أوزارها؟ !!! حسيــــن عبد الجليل

دعوة لمشاهدة فلمي ( إبرة و خيط ) !!! ناصر يوسف

قصص من الدنيا؛ وبعض حكاوي !!! عبد المنعم الطيب

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > مكتبات > جمال محمد إبراهيم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
قديم 21-10-2005, 11:39 AM   #[1]
جمال محمدإبراهيم
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية جمال محمدإبراهيم
 
افتراضي ماريو أنطون : بكائية علَىَ دبلوماسيّ ٍ مِن المَسَالمة





ماريو أنطون : بكائية علَىَ دبلوماسيّ ٍ مِن المَسَالمة

جمال محمد إبراهيم*

(1)
تلك هي " أم درمان" . . الكيان الجامع للإثنيات المتنوعة ، مصهرة الألسن المتعددة ، تلاقي العقائد المتآلفة ، و ازدهارالسحنات في تدرّجها المدهش ، بين بياض ٍ ٍ و سواد ، و سمرة ٍ ، ثم سمرة داكنة صرفة . يقبلون اللون الأسود ، فيقولون عنه تحبباً، "أخضر " ، وهو السواد الصريح . تلك هي أمدرمان تجمع كل ذلك في كنفها . يحبها الأديب الرّاحل علي المك ، و يغاضبها الشاعر الأكاديمي محمد الواثق ، لكن كلاهما يحبّانها حبّاً ، يأخذ لونه ، مما في الأنفس من تجاريب ُتصقل ، ومعاناة ُتنعش ، و مصادمة ُتهلك . أم درمان تحتضن حيّاً رئيساً فيها ، إسمه "حيّ المسالمة" . الإسم يوحي لك بالكثير ، عزيزي القاريء ، إذ الكلمة هي إلى كلمة المسامحة أقرب ، معنىً و مبنى . حي" المسالمة" ، يقع في قلب المدينة ، ليس بعيداً عن سوقها ، و لم يكن حيَاً مهمشاً . "المسالمة" هم المسيحيون و بينهم الأقباط الذين كانوا في السودان منذ الحكم التركي في أربعينات القرن التاسع عشر، وربما قبل ذلك . . أبقتهم دولة المهدية ، بل استهدفتهم في مشروع "أسلمة" فطير الرؤى ، ما تعمق نظرهم في التسامح تكون قيمته أسمى ، و بقائه في الوجدان أدعى . بعد المهدية ، نشأ الحيّ على هدي تسامح ٍ فطري ّ ، لا قسر فيه ، برغم سنوات العسر في دولة المهدية ، فتجاور المسيحي مع المسلم ، في سكنه ،و في تجارته و في ملاهيه . فيهم أسرٌ مسيحية ، من الشام ، و أسرٌ أخرى ، من أقباط مصر ، وآخرين من أصول ٍأرمنية . . و ليس بعيداً عن حيّ "المسالمة" ، تقيم أسرٌ من أصقاع الهند البعيدة . ليس في أم درمان وحدها ، بل هم في الخرطوم و في الخرطوم بحري ، الضلعين الآخرين للعاصمة المثلثة : الخرطوم الكبرى . يعرف الناس الآن نادي المكتبة القبطية ، و لكن لا يعرفون جيداً أنه في يوم ٍ ، كان في الخرطوم مثلاً ، أسقفية للروم الأرثوذكس ، كان رئيسها في سنوات الخمسينات أسقفاً إسمه إف. إكس. بيني . هذا مما وجدته في النسخة الإنجليزية ل 1952 SUDAN ALMANAC , ، المطبوع لحكومة السودان في مطبعة ما كوركوديل . . فتأمل ّ!
جاء الجميع بتقاليدهم المميزة ، و لكن أيضاً ، بكنيسهم و معابدهم . . و كلهم الآن ، سودانيون ، أباً عن جد . في حيّ " المسالمة" ، تنظر حولك الآن ، ترى الكنيسة تقاسم المسجد ، شارعاً واحداً ، و يخرج الناس لصلاة عيد الفطر أو عيد الأضحى أو عيد الميلاد المجيد ، أو رأس السنة ، فيهم مسيحيون وفيهم مسلمون ، بملابس ٍ زاهية ٍ ، و ببشرٍ العيد يلوح في الوجوه . تختلط في تشكيل فسيفسائي رائع ، حتى أسماء ساكني الحيّ : "آل جورج" . . " آل زكي " . . "آل عبد السيد" . . "آل اسكندريان " ، " آل أندراوس " وغيرهم . يستوقفك مثلاُ ، إسمٌ سودانيّ له وقع ٌ شاميّ : "معلوف" ، و هم أسرة كبيرة ، لكنهم تفرّقوا الآن بعيداً ، لأسباب شتىَ . يستوقفك أيضاً ، إسمٌ لمسيحيّ مشرقي : "جورج مشرقي " ، صاحب المحل التجاريّ الشهير في ناصية السوق ، قريباً من مسجد أمدرمان العتيق . . مات قبل نحو شهرينٍ من كتابتي هذي ، وعمره ربما تجاوز الثمانين عاماُ ، و يُحسب من كبار أعيان مدينة "أم درمان" ، بل هو سادن ٌ من سدنة تقاليدها السمحة المرعية . أمً جنازته جميع أهل المدينة ، شيبهم و شبابهم ، و كاد السوق في وسط أم درمان ، أن يغلق أبوابه جميعها ، حداداً عليه ، زارت قبره شآبيب الرحمة و نفحات الغفران . في هذا الحيّ ، عاش و ترعرع صديقي "ماريو". .

(2)
تستوقفك لو استعرضت لك ، عزيزي القاريء، أسماء أسر ٍ مسيحية كثيرة ، راسخة المقام في أم درمان ، يتداخلون مع جيرانهم ، و يقاسمونهم كافة أسباب الحياة ، هم في الأفراح ، مثلما هم في الأتراح . أسرة : "أوتو أنطون " ، هي أسرة مميزة و عريقة في "المسالمة" ، جاء منها صديقي "ماريو" . أسرة جليلة ، بعضهم رجال أعمال ٍ في سوق المدينة ، كما بينهم مثقفون ، تبوأوا مناصب في الدولة . الراحل "جورج أنطون" ، يقرب لماريو ، كان قد تدرّج في السلك الدبلوماسيّ السودانيّ ، و وصل فيه إلى مرتبة الوزير المفوض ، وهي تعادل منصب نائب سفير . ذلك رجل سودانيّ أصيل ، تحفظ له وزارة الخارجية سهماً في نشاطها الدبلوماسي ، في الستينات و السبعينات ، من القرن الذي مضى ، يرحمه الله .
من هذه الأسرة ، جاء صديقي الدبلوماسيّ المستشار الرّاحل "ماريو أوتو أنطون". عرفته في جامعة الخرطوم ، سنوات السبعينات من القرن الذي مضى ، زميلاً ودوداً خفيض الصوت ، يبتسم ابتسامته الآسرة ، وقد رسمتها الفطرة في قسمات وجهه الأسمر ، فلا يسعك إلا أن تحبّه . كنت أعرف أنه من "المسالمة " . دبلوماسيّ سوداني ، و صديق ٌ ، حللنا معاً في سنوات السبعينات في وزارة خارجية السودان . كنا قد عملنا معاً ، في سفارتنا في الصين . هو أعزب و أنا مع أسرتي الصغيرة ، لم نكن نفترق إلا للنوم . كنا نكتشف العاصمة الصينية المستغلقة علينا ، بسيارتي . نتجوّل في شوارع بكين ، الواسعة بلا سيارات ، المحتشدة بملايين الدراجات الهوائية : شيء من لزوم ما لا يلزم في النظام الشيوعي ، وربما رآه البعض تقشفاً إقتضته تصاريف الأوضاع في الصين ، لكنّا شهدنا و نحن هناك ، كيف مازج زعيمهم "تشياو بينج " بين تزمّت العقيدة السياسية و مرونة التطبيق ، فرأينا بأمّ أعيننا ، أول مواطن ٍصينيّ يمتلك سيارة خاصة ، و كانت إمرأة جريئة في أوسط العمر ، صورتها تصدرت صفحات الصحف الصينية كلها ذلك اليوم . كانت تجربتنا في الصين فريدة و ممتعة . في أيام العطلات ، نهرب إلى الأطراف ، نتسلق أسوار المدينة القديمة ، و أجزاء من سور الصين العظيم . . يدهشنا مسجد في الحيّ الشرقي ، ليس بعيداً عن "المدينة المحرمة" ، هكذا يسمّون الجزء الإمبراطوري القديم من بكين . يغرم الصينيون بمسميات تفوح من بين صرامة الشيوعية فيها ، شاعرية الشرق : " الجبل العطري " ، في الطرف الشمالي ، كنا نتنسم عبيره ، أنا وصديقي المستشار ماريو و الجنرال عربي، أو " نوراني " ، الملحق العسكري في سفارتنا هناك . " المعبد السماوي" في وسط المدينة ، هو مكان نتسكع فيه أيام الأحد ، و ليس فيه ثمة عبادة ! نبتاع فيه غرائب التحف اليدوية الصينية . ثم نذهب بعيداً إلى الأنحاء الغربية ، فنكتشف أنا و ماريو ، كنيسة ً نائية ً مهملة ً ، في أطراف بكين . يحزن كثيراً هو . أذكر أنّي أخذته إليها بسيارتي ذات أحد . عاد إليّ بحكايات و قصص عن المسيحيين الصينيين ، يجدون عنتاًَ في إقامة شعائر الدين ، و للماركسية الحمراء ، عزيزي القاريء ، عرس ٌ مقيم ٌ في ميدان " تيان آن مِن" . . ! لا يهمهم الصينيون حتى الهمهمة الخفيضة ، في مثل هذه الحالات . يرثى لحالهم ، أخي "ماريو" ن و يقول لي : حسرتي إذ افتقد "المسالمة" . .

(3)
في "المسالمة" كان يقيم شاعر يكتب الشعر الشعبي ، إسمه صالح عبد السيد( أبو صلاح) ، هو من أميز شعراء هذا الفن الشعري الذي يتغنى به مغنون ، و اشتهر باسم " غناء الحقيبة " والإسم يقصد به مجازاً الصندوق يحتوي الشيء الثمين ، و لقد كان ذلك الغناء ، يحمل في طياته بذرة التشارك في اللغة و اللسان و التطريب و العادات ، لأناس جمعتهم مصهرة أم درمان ، من أصقاعهم البعيدة ، فتآلفوا في هذه المدينة ، مسلمين و مسيحيين ، و أشتات من أبناء و أحفاد رجال سود من قبائل جنوب السودان ، و آخرين من شرقه و غربه . ليس من وصف ٍ أصدق من أن تسّميه ِ التسامح ، يسمو في نفوس ساكني أم درمان ، مدينتي التي أحب .
من "المسالمة " ، كان لجدّي والد أبي ، صديق ٌ يحبهُ ، و يكاد ينزله مرتبة الأخ الشقيق ، "إسمه خورين إسكندريان "، و هو مسيحيّ من أصولٍ أرمنية ، كما يوحي أوضح إيحاء ، إسم عائلته . أستحضر هيئته ، و أنا وقتها في سنّ السادسة أو السابعة ، حينما يدلف إلى بيتنا ، بسحنته البيضاء و جسمه الممتليء و بنطلونه الخاكي القصير ، و على رأسه قبعة قماش إنجليزية ، من النّوع الذي يميّز الصيادين في أحراش أفريقيا . يسامر جدّي لساعات و بينهما أباريق القهوة و الشاي ، لايملاّن يصبّان منها أكواباً متتالية . ربما كانت بينهما أمور كثيرة يتقاسمان اهتماماً بها ، لكن كان واضحاً لي أنّ "خورين" ليس من أتباع ديننا ، وأن هذه الحقيقة عن شخصه ، لم تكن ذات بال كما لم تكن مما يضعف تقدير جدّي و معزّته لِ ِ"خورين " .
لم يكن غريباً على النفس أن تصطفي "ماريو" ، صديقاً و أخاً شقيقا ، فمن المسالمة في أم درمان ، كانت تشعَ شمس التسامح . . وأنا أسمّي حيَ "المسالمة" ، حيّ " المسامحة " ، و ما أصدقه من إسم . . !

(4)
في أوائل التسعينات ، أهلك المرض صديقي "ماريو أنطون " . فقد وزنه كله . حين لاقيته قبل أن يسافر إلى مصر مستشفياً ، حبست ُ دمعتي ، إذ كدت أن لا أتعرّف عليه مما فعلتْ به اللوكيميا . أخذته ُ في أحضاني ، فكنت ُ أحتوي بذراعي ، هيكلاً تتداعى أعضاؤه ، ضعفاً وهزالا . أخفيت دمعة ً لا أريد لها أن تشوّه جمال ابتسامته الثابتة الجسورة التي عهدتها ترتسم في وجهه ، ملمحاً ثابتاً و أصيلاً من ملامح "ماريو" . لم تهزم بشاشته ولا روحه السمحة ، غزوات اللوكيميا ، تفتك بخلاياه ، خليّة إثر خليّة . لم يكسره المرض أبداً . كان يبتسم و هو يقول لي : علَّه اللقاء الأخير لي معكم ، فأنا مغادر إلى القاهرة ، و ظنّي أنه وداعيَ الأخير لكم . .
إنهار تماسكي ، و هربت ُ بدمعي من ابتسامته ، من قوة روح صديقي "ماريو" وهي تسكن أضعف جسم . غادر إلى القاهرة ، فكانت رحلته الأخيرة . .

(5)
في ذكراه تفيض دموعي عليه ، فقد كان في روحه الكثير من روح مدينتي التي أحببت : أم درمان . لسانه العربي ّ من لسان أم درمان . سحنته السمراء ، هي من تلاقي السحنات و اختلاط الأعراق فيها . ثباته و خلقه ، هو من ثبات عقيدته ، و من سموّ إيمانه في مدينة ، مفتاح شخصيتها ، إنفتاح و تفاعل و انصهار . حين تمعّنت في قسمات "ماريو أنطون" ، وهو يودّعني الوداع الأخير ، كنت أرىَ "المسالمة" ، بأُسَرِها الممّيزة ، تخالط ملامحه : رأيت آل "أوتو أنطون " كلهم . رأيت "خورين إسكندريان" ، صديق جدّي . رأيت "أبا صلاح" . رأيتُ "جورج مشرقي" . . رأيتُ المسامحة تطفر من قسماته . في ذكراه تفيض دموعي عليه ، ما تزال . .

*كاتب و دبلوماسي سوداني
الخرطوم 20 أكتوبر 2005


تم نشر المقال في صحيفة سودانايل الإلكترونية و للأستاذ طارق الجزولي شكري و تقديري



التعديل الأخير تم بواسطة جمال محمدإبراهيم ; 21-10-2005 الساعة 11:42 AM.
جمال محمدإبراهيم غير متصل   رد مع اقتباس
 

تعليقات الفيسبوك

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 02:16 PM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.