جدلية الموت والحياة فى أشعار الشابى
.... تظل موضوعة الموت _ رغما" عن حضورها الدائم كحقيقة لامفر منها_
القضية الاقل تداولا" فى ساحات الاداب والفنون ... وبالرغم من ان تيار الحداثة
فى الادب والذى طال الشكل والمحتوى دفع بقائمة طويلة من الموضوعات الجديدة
لتشغل مكانة مرموقة فى أجندة الادوات الابداعية ... الا ان هذا الموضوع (الموت)
ظلت حوله الكثير من الدوائر الحمراء وربما يرجع حذر المبدعين منه باعتبار
ان ادوات الابداع وان كانت موضوعية تخدم غاية معينة فهى بالضرورة تحمل فى
طياتها جانبا" ترفيهيا" يرفع عن كاهلنا المثقل الكثير من العناء ..
ولذا كان هذا الموضوع ربما ايضا بما يحمل من طبيعة مضادة لفطرة ووجود
الانسان .. الاقل مدعاة للطرق والتناول ..
حتى أطلت قامة جديدة فى سماء الادب العربى ... الشاعر المهول ابوالقاسم الشابى
الذى ورغما" عن قصر تجربته الشعرية نسبيا" الا انه استطاع ان يفجر العديد من
الاسئلة الوجودية الضخمة شارعا" بذلك النوافذ لتناول قضايا ظلت حبيسة أديرة
العبادة وسراديق المآتم ...
....
القارىء بعناية لنصوص مجموعة ((اغانى الحياة )) يلاحظ كثافة تناول الشابى
لجدلية الحياة والموت باكثر من طريقة واسلوب ويبدو هذا واضحا" حتى فى
عناوين قصائده : ياموت .... حديث المقبرة ... الى الموت .... فى ظل وادى الموت
وغيرها من القصائد ..
...
يتناول الشابى هذه الجدلية فى شكل حوار فلسفى عميق مداره الحياة والموت
والخلود والكمال من خلال نص (حديث المقبرة) فى محاورة بين الشاعر وروح
فيلسوف قديم :
كبير على القلب هذا العناء
وصعب على القلب هذا الهمود ..
وماذا على القدر المستمر
لو استمرأ الناس طعم الخلود ..
فدام الشباب وسحر الورى
وفن الربيع ولطف الورود ..
وعاش الورى فى سلام أمين
وعيش نضير رخى رغيد ..
.......
لكن الحكمة الازلية تجيبه على لسان الفيلسوف لتسكبه على قلبه برد اليقين :
تأمل .. فان نظام الحياة
نظام دقيق بديع فريد ..
فما حبب العيش الا الفنا
و لا زانه الا خوف اللحود ..
ولو لا شقاء الحياة الاليم
لما أدرك الناس معنى السعود ..
........
ويبدو ان حديث الفيلسوف قد أثر على نفس المرهقة بكثرة الاسئلة فعاد يناجى
نفسه الحالمة بالخلود وطول البقاء :
ولكن اذا ما لبسنا الخلود
ونلنا كمال النفوس البعيد..
فهل لا نمل دوام البقاء
وهل لانود كمالا" جديد ..
وكيف يكونن هذا الكمال
ماذا تراه؟؟ وكيف الحدود ؟؟..
وان جمال الكمال ((الطموح))
ومادام فكرا" يرى من بعيد ..
فما سحره ان غدا ((واقعا"))
يحس وأصبح شيئا" شهيد ...
............
وهاهو الشاعر يعود ليعالج نفس الموضوع فى سياق عاطفى بديع من خلال
نص (قلب الام) متناولا" مأساة وفاة طفل صغير كان بهجة الوجود لأهله وجيرانه
وأصدقائه ... ولكن :
.. وتفرق الناس الذين الى المقابر شيعوك ..
ونسوك من دنياهم .. حتى كأن لم يعرفوك ...
.......
حتى الرفاق .. فانهم لبثوا مدى يتساءلون ..
فى حيرة مشبوبة : أين أختفى ذاك الأمين ..؟؟
لكنهم علموا بأنك فى الليالى الداجية ..
حملتك غيلان الظلام الى الجبال النائية ..
فنسوك مثل الناس وانصرفوا الى اللهو الجميل ..
بين الخمائل والجداول .. والروابى والسهول ..
........
وتبقى حقيقة الطبيعة البشرية .. فبالرغم من كونها تسير بمحاذاة الموت .. الا
أن المساحات المسموح له بها فى الذاكرة تظل ضئيلة محصورة :
كل نسوك .. ولم يعودوا يذكرونك فى الحياة ..
والدهر يدفن فى ظلام الموت حتى الذكريات ..
الا فؤادا ظل يخفق فى الوجود الى لقاك ..
ويود لو بذل الحياة الى المنية وافتداك ..
.....
وحتى أثناء صلوات الشاى فى هيكل حبه لتلك العذبة كالطفولة والاحلام
واللحن والصباح الجديد .. فانه مازال ينادى ... ((نص صلوات فى هيكل الحب))
أنقذينى من الاسى فلقد
أمسيت لا أستطيع حمل وجودى ..
فى شعاب الزمن والموت
أمشى تحت عبء الحياة جم القيود ...
............
ويبدو أن قسوة الحياة الصعبة التى عاشها شاعرنا وحجم المرارات التى
ذاقها من خلال هذا العمر القصير قد أعلت من شأن الموت عنده باعتباره
خلاصا" ابديا وراحة دائمة (نص الى الموت) :
..هو الموت طيف الخلود الجميل
ونصف الحياة الذى لا ينوح ..
هنالك خلف الفضاء البعيد
يعيش المنون القوى الصبوح ..
يضم القلوب الى صدره
ليأسو ما مضها من جروح ..
ويبعث فيها ربيع الحياة
ويبهجها بالصباح الفروح ..
...............
وتتكرر معاناة الشاعر الفردية فما يلبث ان يناجى صديقه الموت وفى
مناسبتين مختلفتين وان وحدهما الشجن :
مات الحبيب وكل ماقد كنت ترجو أن يكون ..
اصبر على سخط الزمان وما تصرفه الشئون ..
فلسوف ينقذك المنون .. ويفرح الروح السجين ..
................ (نص الذكرى)
.......... وهاهى شظية أخرى من شظايا هذا القلب المحطم على صخور الحياة
.. نص (ياموت) يسكب فيه الشاعر دموع أساه على وفاة والده :
ياموت قد مزقت صدرى
وقصمت بالارزاء ظهرى ..
وفجعتنى فيمن أحب
ومن اليه أبث سرى ..
وأعده فجرى الجميل
اذا أدلهم على امرى ..
.......
خذنى اليك .. فقد تبخر
فى فضاء الهم عمرى ..
خذنى اليك .. فقد ظمئت
لكأسك الكدر الأمر ..
خذنى .. فما اشقى الذى
يقضى الحياة بمثل امرى ..
.........
ومناقشة قضية الموت عند الشاعر لا ترتبط عنده فقط بمعاناته والامه
الشخصية بل تتمدد لتصير بالنسبة اليه جزء اصيل من احلامه كانسان
وشاعر ... وعبر عن ذلك فى نص ( احلام شاعر ) :
ليت لى ان اعيش فى هذه الدنيا
سعيدا" بوحدتى وانفرادى ..
ليس لى من شواغل العيش
مايصرف نفسى عن استماعى لفؤادى ..
أرقب الموت والحياة واصغى
لحديث الازال والاباد ..
.........
وفى (ظل وادى الموت) يمضى بنا الشاعر مواصلا" رحلته الفريدة ومتسائلا"
عن غائية الخلق فى شكل محاورة بينه وعناصر الطبيعة .. الى ان ينتهى الى
استجداء الموت باعتباره تجربة يرغب الشاعر فى دخول عوالمها وقد كان له ماتمنى:
وزهور الحياة تمضى بصمت
محزن مضجر على قدميا..
جف سحر الحياة ياقلبى الباكى
فهيا نجرب الموت هيا ...
......
فى الختام .. تبقى هذه مجرد محاولة متواضعة للدخول من زاوية جديدة
لفضاءات وعوالم الشابى الشعرية.... وربما يغفر عدم تناولها باكاديمية
كونها نابعة من حب عميق ورغبة صادقة فى الاقتراب من دنياوات هذا
الشاعر الرقم ....
ودمتم.
|