أضغاث السنسميليا 4 فتنة الغضب
أضغاث السنساميليا 4
فتنة الغضب
جلس ابى بجانب شجرة الميلاد مغضيا أفتتان عينيه عن عبث الأضواء المنتثرة على طولها و ما حولها و من وراءها ، تغمز ألوانها بالأحمر و تنتهى به ، هفت أشواقه الى الهدايا المغلفة بعناية مندسة فى قاعدتها، اشار الى قمت أذر جليدا صناعيا من الياف بيضاء على سعف نخل فى خاطرى ، أمشى أتوكأ على نعل من قماش بال ، غائص الى مفاصلى فى طين ( المترة) اللزج ، شهدت عوازب أحلامى مقطبة الأسارير تعود واحدة تلو الأخرى عبر المدخنة قبيل حلول ( سانتا) ، و الليلة باردة ، و جوف النيل عامر بالدفء ، الليلة هادئة فى ( سبرنغفيلد) و عاصفة فى القطب و لكن ( سانتا) ازمع السفر على كل حال ، على ظهر مركبته التى تسحبها الكلاب..صاح هزجا ( هو هو هو) ، مكسوا برداء أحمر تبدا منه الألوان رحلتها و تنتهى به فى الحذاء .
ابى لا يزال مستغرق فى فتنة الأشياء من حوله ، فعاودنى نفسه الطرب الكسيح الكسير الذى يعاودنى كلما همهم المذياع بأزيز غطاءه المطاطى المشروخ ( بلال يا بلال...اب ذوق عشمو....) ، افيق على صوته ابى يرجز ( جنقل بيل...جنقل بيل...) ، يضحك و يبتدرنى بقوله..ليتنى اشعلت سراجى تحت نخلة فى مروى هذه الليلة ، و لكن الطائرات أقلعت و آخر القطارات مضى و مضى معهن آخر عهدى بالدليب!!
كم كان يلزمه من الصمت حتى لا تشى به الحرائق ، ( و هل خلق الأنسان اللغة الا ليخفى مشاعره؟؟؟) همست فى سره و ما اظنه قد سمع . خرج ابى من رماد الحريق ، طالعا فى فى صباح ممطر من اغسطس ، أتى ابى قادما من غور الأسئلة القائمة فى ظلمة صمت المحنة ، ذربا ، غائم الذاكرة و على مقلتيه بريق الحنو و الغلظة ، عددت أصابع يديه و قدميه ، ربت على خديه و قد امحت عنهما الشلوخ و صارت مثل ندوب على ظهر طلل منسى ، همست فى اذنه الصغيرة ..مرحبا و عقب الآذان ، استرق نظرة الى ذوائب الشيب فى مفرق كهولتى ..تبسم و قال..كبرت يابنى!! جلس فى مقعده المنصوب على مقعد السيارة الخلفى ، مشدودا الى مناصى السلامة و الحذر ، زففنا فرحنا به الى البيت ، اتصل بنا الناس فضولا و تساءلوا ...كم وزنه؟؟ ضحك كعادته و عقد ما بين حاجبيه ، فأستبانت سطوته ، و انتثرت قطرات خواطره أمام ناظرى- لمحت فيها وجوها ساكنة مستظلة بطمأنينة الغضب، واقفة فى وجه طلائع جيوش ( الباب االعالى) ، يذبون بالسيوف هاطل الرصاص، و بينهم نساء و صبايا .. أطرفوا و أخفضوا وولوا سيوفهم اللمم و ما عقروا الناقة فما بان لهم خلاص غير أفق الردى ، استقبلوه بطمانينة الغضب ، فأعتقهم الموت من رزء العبودية ..
طق ابى على غطاء ( الحقة) الحديدى المنمنم ، مقاطعا مسير الأنباء السوداء المتواترة المنبعثة من رحم المذياع ، مات ( عبد الناصر) ،فخرجنا فى اردية من الكاكى، وقفنا طوابيرا امام ابواب (النادى العربى) فى حزن متشكك متساءل عميق، رايت ابى يثير الصخب و هو يتابع الرسوم المتحركة، فاجأته و انا اقترف كذبة كبيرة فأتى الى سكون ، كان ذلك حين تعذرعلى فهم اللافتات البيضاء العريضة التى تزحم الآفاق ، يحملها أناس سمعته يسميهم بالمتظاهرين ، دخان و هتافات و عويل ، و رجال شرطة بؤساء الهيئة يجلسون على حواف شاحنات الجنود سجناء فى قيود بزاتهم.. ثم انجلت الغبرة عن سماء صافية و نشيد.
نشيد عذب رقيق ، لا يشبه ذلك الهتاف و العويل ، غنينا معه و كأننا نحفظه منذ الأزل ، و اصواتنا الغضة تعلو دونما قصد ..باسمك الشعب انتصر....صفقنا بطرب حتى اتانا صوت المعلم..قيام...جلوس..قيام..جلوس..ثم انصرف يحادث رجلا رسميا عند الباب ، ذكر همسا بأنه مفتش التعليم ، فأحسنا السلوك و طوينا ايادينا على صدورنا فى تضاد محكم ، ضحكا و هزا رأسيهما من حباب نشوة و أمل أدركنا منه قبس ما لبث ان خبا.
صفت عيون الناس و رقت اعطاف الشجر و الطرقات ، و فى المساء الباكر قبل ان تصيح اختنا الصغرى ( انا انوم وين) ، عددنا الالوان فى الأضواء المعلقة على الشجر و حواف الحوائط و اسوار السلك المعقود حول الحدائق و الورش ، فكانت تبدأ بالأحمر و تنتهى به .
غاب ابى بعد ذلك بعامين ، ذات صبح ممطر فى بداية أغسطس ، رجعنا من وداعه مشيا على الأقدام ، تركناه وراءنا و حيدا من رداءه البيض ، وضع عمى آجرتين على مقدمة قبره حتى لا يضل الدعاء طريقه اليه ان عدنا ، عدنا تظاهرة دون بيارق و دون نشيد الى وحشة سريره الحديدى فى منتصف الدار و عجلته ( الرالى) متكئة على الجدار ، الى بقية من ماء فى الأبريق، و بقايا صحيفة ، و عوينات قراءة يعينها سلك رفيع على التماسك و الصمود، عدنا الى وحشة العويل و الرماد ،الى قصائد جدتى تودعه الى مشارف الحديد حتى سكنت حياته بأغنياتها، حتى أختزن عقلى رائحة جسدها.
كان ابى يسرق السؤال من شفتيها قبل ان تبوح به ، و يجيب عليه ( رسلى لى عفوك) ، و هاهو بجانبى يفك الأزار عن صناديق الهدايا التى اتى بها ( نويل) من عواصف القطب ، عله يعثر بالعفو مخبا فى فى زوايا الصناديق ، تلوت و انا امسك براسه بين راحتى ، آية الكرسى و المعوذتين ، فتمتم بشكر ( ابانا الذى فى السماء) ، قامت امه تعوذه ( غوتاما بوذا ، قاهر الموت قبل ان يدركه الموت ، و هادم اللذات اسماها و ادناها ، القائل للزمان انا انت و للمكان انا افسح منك و ابقى..) ، شد ابى الأزار الأحمر يطوق به استدارة الرماد فى السماء ، تمدد اليوم و تمطى فى كسل ، فأكملنا دورة الحب ، الذى بدأ بدمعة على خد جدتى ، و اعقب اكتماله بمذبحة للغة تقاتلنا فيها دون عواطفنا المرتابة ، و ما افسحنا له فرجة ينفذ منها الى حدود الماء فما تيسر له البكاء ، غيرت العواصف اسماءها و امسك الوجد انفاسه و سكت .
قام ابى من مجلسه ، بجانب شجرة الميلاد ، و اغمد جسده الصغير الرقيق بين الأغطية ، اغفى و بين شفتيه ابهامه الدقيق و شبح ابتسامة ، موليا وجهه شطر أعمدة خشبية ملونة ، نصبت على طوقها البيارق و الصيوانات الواسعه المزخرفة بأشكال دائرية و مضلعة ، و زينت بآيات و ثناء على المصطفى ، و فى داخلها على المناضد العالية ، وقف فارس الحلوى القرمزية ، جنبا الى جنب عروسته ، مفرغين من احشاءهما يحدقان الى الأفق فى صمت بليغ ، هل هى الأصنام تعود حلوى عوضا عن عجوة ؟؟ ام انها البدع المحمودة ، باشرت قضم اطراف الفارس ، اعملت اسنانى مثل منشار عريض امتص رحيق الفارس القرمزى ، بينما قبضت اختنا الصغرى على عروستها بعزم من يود الحفاظ عليها الى الأبد .
طرقنا و سط الغبار المعطر بأزيز الطبل و الصبر و الأبتهال و صياح الباعة و المادحين و الناجين من مهلكة ( الباب العالى) ، و الفارين فى وجه ( السد العالى ) ، مسلكا صعبا تشتد فيه قبضة ابى على اجسادنا الصغيرة خشية ان ننزلق فى الزحام فنضيع ، شددت قبضتى على الفارس القرمزى حتى لا يضيع هو الآخر . انحسر الضوء و الضوضاء لحظة انشد فيها ابى و الوجد معلق على لهاته و قال فى ختام النشيد ( عليه الصلاة والسلام) ، كان كأنما ينفث حزنا و شوقا و حنينا الى سراج موقد تحت نخلة، كان يحن الى السرى و هو مقيد الى الأرض ، كان حنينا الى قمر يفضض ماء النهر و دمعة على خد جدتى ، دمعة وحيدة مكابدة ، دمعة حرى تتوسل بقاءه و تتعجله مثل القضاء ، مثل ذكرى الوجوه التى تقمصت طمأنينة الغضب فمضت الى لا عودة- ذكرى وجوه اسلمت جدتى الى عصف الفراق.
انزلنى من على كتفه ، امشى على حذائى القماشى الأثير مزهوا برفقته و خاطرى تشظى عند رحيله فى المولد الذى اعقب الذى اتى ، عدت بلا بيارق ، دون نشيد ، الى وحشة الطار و المدائح النائحة ، المدائح التى تمسحت برماد المراثى و اغتسلت بالسلوى، عدت الى النخل الزائف اذر عليه الجليد الزائف ، تهمس جدتى ...يا لها من مدائح حزينة!!!
ايقظ ابى فى الصباح الباكر صوت الأجراس و التراتيل ..بسم الأب و الأبن و الروح القدس .....صاح من مرقده..آمين...و هرع الى قاعدة شجرة الميلاد يدعك عينيه يسارع صحوا حتى تلاشت الذكريات من بصيرته و صوت مركبة ( نويل) و هى تنسحب فى الأفق ...ادى صلاة الصبح..سبح..حوقل...صوت العرب من القاهرة ..حول المؤشر فغنى ( بيلى جول)
When you look into my eyes
and you see the crazy gypsy in my soul
it always comes as a surprise
when i feel my withered roots begin to grow
well i never had a place
that I could call my very own
but that's all right my love
cuz you're my home.
اين هو الوطن؟؟؟ هل هى الوطن؟؟
|