هكذا تابع الاعلام الهولندى مناسبة رد الجميل
العربيةالعربية
العربية > ثقافـــــة وفنون > ثقافــــــة
محجوب شريف يرد جميل محبيه تقرير: عمر الكدي – إذاعة هولندا العالمية
15-10-2007
" وبيني وبين النهرعشانك
عشرة بتبدأ
وبين عيني.. خد الورده
بتبقي موده
اصالح روحي
وتبري جروحي
أهتف بإسمك .. أهلل .. أغني
وأقيف وأتحدى
أحبك .. أحبك .. أنا مجنونك
أحيا الشاعر السوداني محجوب شريف أمسية شعرية وغنائية بمدينة أوترخت الهولندية يوم السبت الماضي، تأتي الأمسية ضمن جولة أوروبية تحت اسم "مشروع رد الجميل"، بدأت الجولة من داخل السودان، ثم مدينة الدوحة عاصمة قطر في مارس الماضي، وتشمل الجولة الحالية، مدينة مالمو في السويد، ومدينة أوترخت في هولندا، ثم النرويج، وأخيرا لندن، قبل أن يعود الشاعر مع زوجته، وأبنته مي التي تجيد غناء القصائد التي كتبها والدها.
بدأت فكرة "مشروع رد الجميل" بعد تماثل الشاعر للشفاء من مرض خطير ألم به، وكان عليه أن يذهب للاستشفاء في لندن، ولم يكن مع أكبر شعراء العامية السودانية، الذي عرفته الزنازين والسجون، ما يكفي لعلاج تليف الرئة الذي أصابه بسبب مادة "الاسبتوس" التي تغلف بها أسقف الزنازين والسجون في السودان حتى الآن، ولم يبخل الشعب السوداني على الشاعر الذي رفض في محنته عروض وزارة الصحة السودانية، وتنادى الفنانون السودانيون في الوطن والمهجر، وجمعوا ما يكفي ويزيد لعلاج الشاعر الذي راهن على شعبه، أكثر من الرهان على الحكومات المتعاقبة التي حكمت هذا الشعب، وأمضى الشاعر عشرة أشهر من العلاج في لندن طوال عام 2006، وعاد إلى بلاده لتستقبله الجماهير الغفيرة في مطار الخرطوم مثلما ودعته بالدعاء والدموع. الازدحام الشديد أحرج السلطات التي حاولت استغلال الحدث، وفتحت بوابة كبار الزوار ليخرج منها الشاعر الذي عاش مع الشعب وبالشعب، حتى استحق لقب شاعر الشعب، والذي رفض العرض الحكومي، وخرج من بوابة الشعب الذي كان في انتظاره.
بعد أن استعاد صحته قرر محجوب شريف أن يرد جميل محبيه، وذلك بتنظيم جولة فنية تستغل عوائدها المالية لمساعدة الفنانين والمبدعين السودانيين، وأيضا المحتاجين وخاصة الأطفال منهم، وهكذا برهن الشاعر مرة أخرى على كونه ضميرا حيا لشعبه، مؤكدا الاستقامة والنزاهة، والإخلاص الشديد للمبدأ حتى آخر رمق. يقول محجوب شريف في تدشين الموقع الالكتروني الذي حمل نفس الاسم:" لم أكن بطلاً أسطورياً نسيج وحده إنما بفضل الأيادي والصدور الرحبة والعيون الحانية بالتضامن والتدافع الحميم في كل ظرفٍ يحتاجُ فيه الإنسان إلي أخيه الإنسان . قبلت وما كنت سألوم جهةً أو هيئةً أو مؤسسةً أو فرداً وما كنت أنتظر أكثر مما لقيته من عناية الأطباء في أرض الوطن ، ذلك لأنني وبصدقٍ وشرفٍ ، لم أشعر في أي يومٍ من الأيام بأنني صاحب فضلٍ يمتن بمواقفه علي الآخرين . إنه إختياري إذا صنته أحسنت و إذا خنته فذلك عاري. لقد قبلت، فلتقبلوا مني رد الجميل".
لم يكن محجوب شريف عضوا في الحزب الشيوعي السوداني عندما اعتقل للمرة الأولى عام 1971، بعد فشل انقلاب هاشم العطا، والذي ترتب عليه إعدام زعيم الحزب عبد الخالق محجوب، ورفيقه الشفيع الشيخ، الذي كان بمثابة الضربة العنيفة لأكبر الأحزاب الشيوعية في القارة الإفريقية، وفي البلاد العربية. كان محجوب شريف في التاسعة عشر من عمره، عندما وجد نفسه في سجن كوبر، وهناك تقدم بطلب للانضمام للحزب الذي أصبح مجرد الاشتباه في كون المرء شيوعيا قد يكلفه حياته، ومن داخل الزنزانة خرجت قصائد محجوب شريف لتضمد الجراح، وتكفكف الدموع.
ومنذ ذلك الوقت أصبح الشاعر الفنان المسالم، والذي عرف بالبساطة الشديدة والوداعة نزيلا في سجون كل الانقلابات التي حدثت في السودان. إذا أضرب العمال يعتقل محجوب شريف، وإذا تظاهر الطلاب في جامعة الخرطوم يعتقل محجوب شريف، وإذا أحس العسكر في القصر الجمهوري بمؤامرة ما تحاك في الظلام، يكون محجوب شريف أول المعتقلين، حتى تجاوزت سنوات اعتقاله السبع سنوات، كان آخرها عام 2004، وبذلك يكون محجوب شريف قد لخص من خلال سيرته الذاتية سيرة الحزب الذي اختاره نكاية في سجانيه، ولكن محجوب في نفس الوقت لا يهتم كثيرا بالايدولوجيا الحزبية، ولم يكن مضطرا أن يردد ما قاله ماركس وأنجلز وروزا لكسمبورغ كي يتواصل مع شعبه، لذلك لم يهتم بكون محجوب شريف شيوعيا إلا أجهزة الأمن، التي تتغير أيديولوجياتها مع كل انقلاب، والشيء الوحيد الذي لا يتغير هو إصرارها على " خطورة " محجوب شريف، وعلى ضرورة اعتقاله مباشرة بعد اعتقال كل المسئولين السابقين.
بالنسبة للمواطنين العاديين يعتبر محجوب شريف مثلا أعلى، ويلخص الروح السودانية بامتياز، فهو نسيج من التصوف والزهد كما تجلى في تاريخ السودان، وحتى الآن لا يزال يعيش في بيت قديم بحي "الثورة" وهو من أشهر الأحياء الشعبية في العاصمة، ويكاد يكون شريف شيخ طريقة خاصة، عندما يستنجد به مريدوه تحلق فوقهم قصائده معجونة بطين الشعب وعرقه كما قال في رثاء عبد الخالق محجوب:
واحلالي القبلي شال شبال لمع برق المهيرة
قيرة قيرة يا مطيره
يا رزاز الدم حبابك
لما يبقى الجرح عرضة ولما نمشي الحزن سيرة
من دمانا الأرض شربت موية عذبة
كل ذرة رملة شربت حبة حبة
موية أحمر لونها قاني
فتقت ورد الأغاني
لم يكن محجوب شريف شيوعيا عندما أعتقل وهو في التاسعة عشر من عمره، ولكنه كان متعاطفا مع اليسار مثل معظم أبناء جيله، حتى أنه كتب قصيدة يبارك فيها انقلاب 25 مايو 1969 الذي قاده جعفر نميري، ولا يخجل محجوب شريف من مراهقته السياسية، لذلك كان دائما يغفر الضعف الإنساني، ويتسامى فوق جراحه حتى مع سجانيه، ولكنه لم يكن يغفر لنفسه أي تهاون، ولهذا السبب بالإضافة إلى موهبته الأصيلة، وتحوله مع زمن إلى صوت من لا صوت له، تحول محجوب إلى ضمير حي، يتفق عليه كل أبناء السودان بمختلف أعراقهم ودياناتهم وطوائفهم. في بداية محنته أتصل به ديوان وزير الصحة ليتولى الإنفاق على علاجه، ولكن الشاعر رفض، مثلما رفض ذات مرة مبلغ مائة مليون جنيه سوداني، ليكتب بدل قصائده النضالية بعض المدائح الدينية، وراهن فقط على شعبه، وحتى عندما استجاب الآف السودانيين ليقفوا مع "شاعر الشعب" أبى محجوب شريف إلا أن يرد لهم الجميل، ليس فقط لأولئك الذين تبرعوا مباشرة من أجل علاجه، بل أيضا من أجل الذين لم يستطيعوا الوقوف معه إلا بالدعاء، وهاهو يساهم بمبادرته هذه في لملمة السودان الذي يخشى من انفراط عقده، بسبب التعنت وضيق الأفق، وتغليب عنصر واحد من شخصية السودان على بقية العناصر. ويبدو أن محجوب شريف وهو في هذا العمر، بينما تمر بلاده بمخاض عسير، أصبح يتوجه إلى الأجيال القادمة، راجيا أن تكون أقدر على علاج أمراض السودان المستعصية:
باكر تعرف تقرا وتكتب
وياما ترتب
نحنا بنحلم وكم نتمني
هل تحقق كل ما تحب
تبني حياتا الند بالند
اي مكانة وخانة تسد
لم ينل محجوب شريف الشهرة والمكانة التي يستحقها على المستوى العربي، ولعل السبب يعود إلى "سودانيته " الموغلة،و إصراره على الكتابة بلهجة سودانية " قحة "، بينما أشتهر الذين أقل منه موهبة بفضل انتشار اللهجة التي يكتبون بها في كل أنحاء البلاد العربية، وهكذا يدفع محجوب شريف مرة أخرى نفس الثمن الذي يدفعه شعبه، الذي لا يرى العرب أنه عربي بالكامل، ولا يرى الأفارقة أنه إفريقي بالكامل، ولم يبق له إلا التسامي فوق كل العوائق ليعكس من خلال بساطة شخصيته التي تخفي كل التوليفة المعقدة التي صنعت السودان، مثل ما فعل الشعراء الذين انتموا إلى الإنسانية، فرفعتهم فوق اللغة، وفوق الجغرافيا، وفوق ظرفية اللحظة الراهنة، التي صنعت حياتهم، ليكونوا شعراء النفس البشرية في كل زمان ومكان. من يذكر جنون هولدرلين، وأصول لوركا، وجنسية كفافيس، ورقم عضوية بابلو نيرودا في الحزب الشيوعي الشيلي، لم يبق منهم إلا هذه الرهافة الحادة التي تغوص في قلوبنا مهما كانت ألواننا، ولغاتنا ودياناتنا لتذكرنا بأننا جنس واحد اختار بغباء شديد كل هذه الحدود والسجون.
مفردات البحث: الشاعر السوداني، المراهقة السياسية، اوترخت، شيوعي، علاج، محجوب شريف، مشروع رد الجميل
عنوان التعليق
الاسم
البريد الالكتروني
اخف بريدي الالكتروني
اظهر بريدي الالكتروني
موقعك الشخصي
المدينة
البلد
التعليق
ادخل الحروف ادناه هنا لتجنب اساءة استخدام بريدك الالكتروني
ارسل نسخة الي بريدي
اطبع هذه الصفحة
--------------------------------------------------------------------------------
حقوق الطبع اذاعة هولندا العالمية 2007 Disclaimer
|